يُقدِّم الشاعر العراقي سعدي يوسف في كتابه «يوميات الأذى» ذاكرة، ورائحة أمكنة، وتعرية لسياسيين وسياسات، ورصداً وتأريخاً لمنظومة من الفساد في بلاده، تلك التي اجترحت نماذج وشواهد غير مسبوقة في التاريخين القديم والحديث.
أكثر ما يُلفت الانتباه والتوقُّف عنده في كتابه، رسْمه لبورتريهات أسماء وعلاقات ونصوص وأمكنة. ذلك لا يعني أن كتابته السياسية بمنأى عن الأذى. هي في الصميم منه؛ لولا تورُّطها في مشكلة تكمن في جرعة الانفعال التي تكاد تحكمها من جهة، وشخصنة بعض خلافاته مع أسماء يتقاطع معها من جهة أخرى. أكثر ما يُفْسِد كتابة الشاعر في ذهابه إلى النثر تلك النبرة والصيغة في تصفية الحسابات، تكاد لا تختلف كثيراً عن نبرة السياسيين من مواقعهم؛ مع فارق أن النبرة هنا تنطلق من موقع الشاعر.
في «يوميات الأذى»، يكتب سعدي يوسف عن صديقه «شاعر اللعنة العراقية» جان دمّو. عن متاهته وصعلكته وسُكْره الذي لا ينقطع. عن تعتعته. عن هذيانه. عن عمَّان «مطلع التسعينات كان يزورني يومياً تقريباً (...) قال لي في زيارته الأولى: هذا البيت ليس بيتك... إنه لنا»! يرد عليه سعدي: «أنت تأمرني يا جان»؛ ليعيد تأكيد أن البيت «لنا».
يُسجِّل سعدي جانباً من شهادته التي تبدو عابرة وشفهية ولكنها مُقيمة لدمّو «أخذوني إلى الجبهة، وألبسوني بدلة الجيش الشعبي لأنني كابتن فريق في كرة القدم، وكانوا يُطعمونني دجاجاً؛ لكنّي لا أحب الجبهة والخنادق، فأهرب بلا إجازة، وأذهب لأشرب في اتحاد الأدباء (...) أستفيق في اليوم التالي، لأرى أنني في مستشفى للأمراض العصبية، قريبٍ من اتحاد الأدباء».
يكتب حين تفاجأ بتذكُّر جان نصاً كاملاً قرأه قبل 30 عاماً، كما تفاجأ بأنه لا يتذكَّر أين أمضى ليلة البارحة! عن أثره الشعري الوحيد المطبوع «أسمال»؛ ذلك الذي تبرَّع بطبْعه فاضل جواد المقيم في أميركا. ويختم رسْم البورتريه بسؤال: هل كان جان شاعراً؟ «أتذكَّر ما قاله عبدالقادر الجنابي عنه: « شاعر بلا نص. نص بلا شاعر»!
في كتابته عن أمل دنقل، ذهاب إلى سماوات من التذكُّر. يعترف سعدي أن رَهَقَاً ما قد تسبِّبه كتابة من وراء حُجُب. هو في حجابه الترابي، ومن يكتب أمام صريح الوجود الذي يبدو عصيِّاً على الإدراك والرؤية في كثير من الأحيان.
يكتب «لا أريد أن أزيدك رَهَقاً. يكفيك ما أنت فيه، يكفيك ما تحمله من أثقال هذا التراب».
في اللقاء الأول الذي جمعهما في بيروت في ثمانينات القرن الماضي، كان الترحيب من جانب دنقل مغايراً وبصوته الأجشِّ قال: «يا ابن (...) أأنت سعدي يوسف؟ أكُلَّما فكَّرت أنا بقصيدة وجدْتُك كتبتها ونشرتها»؟ كتب عن فنِّه الشعري الذي رأى أنه أعقد وأعمق من «لا تُصالِح».
يكتب بورتريهات عن «ساعات لوركا الأخيرة». مؤلفات لوركا هي سبب محاولات القبض عليه. هي سبب قتله. جنود برشَّاشاتهم يأخذون مواقعهم على امتداد الشارع عند منزل آل روزاليس، وفوق سطوح المنازل المحيطة. كان لوركا وقتها في أعلى المنزل يسمع المُشادَّة بين روزاليس والقوة المُكلَّفة بالقبض عليه، ومع يقينه بأنه سيتم اعتقاله، يُسلِّم نفسه مع وداع طفيف للعمة روزا «لن أُعطيكِ يدي، لأنني لا أُريدكِ أن تظنِّي أننا لن نلتقي ثانية».
ما تبقَّى من بورتريه يتعلَّق بتفاصيل أصدقاء وبشر المكان الطارئ. طرق القتل تتعدَّد، كذلك هي تبريرات ذلك القتل، وهي تبريرات تظل تكشف يوماً بعد يوم عن الهشاشة التي تملك القدرة على تلاشيها مع كل ممارسة فائضة بالعنف والقتل والدم؛ والسبب: أن تكون كاتباً، وتملك القدرة على التعبير عن تلك الهشاشة والأسباب والظروف التي أوجدتْها في هيئة قوة؛ وهي ليست كذلك.
يكتب عن الروائي والشاعر الكردي السوري سليم بركات، وحدَّد شروطاً ومناخاً لقراءته، من بينها، الإلمام بجانب أساس من شخصيته، وهو جانب طفولته والفتوَّة المبكِّرة.
قال له ذات لقاء: « إنك أعظم كردي بعد صلاح الدِّين»، ليضيف «بعد ربع قرن من مرِّ الزمان (الكتابة كانت في العام 2004)، أعود إلى الْقَوْلة ذاتها وأنا أكثر اطمئناناً إلى صوابها (...)».
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4963 - الجمعة 08 أبريل 2016م الموافق 30 جمادى الآخرة 1437هـ