بين دهاليز المحرق الشمّاء، وممراتها الضيقة، تختبئ النفائس وهدايا الزعماء، وتختبئ معاني الشرف والحق والمبدأ، ويختبئ الحد بين الجد واللعب، هناك حيث يُصنع ما يُقطع به «الراس» وتزدان به «الأعراس»، يُصنع السيف في «ديباج السيوف» الاسم الوحيد في السوق البحرينية لصناعة السيوف والخناجر والشبريات أو ما تعرف بـ «السكاكين الصغيرة».

«الوسط» انتقلت إلى تلك الدهاليز والممرات الضيقة، ووصلت إلى محلات «ديباج»، حيث صناعة السيوف، والتقت بمن ورث حرفة هذه الصناعة عن أجداده، هو شاكر الصائغ، الذي أكمل عقدين من الزمن وهو يرى لمعان السيوف بأنواعها المختلفة، معتزاً بها، لأنها تخرج من «رمز الرجولة والعدالة».

الصائغ استقبل «الوسط» بابتسامته المألوفة، مردداً عبارات الترحيب والتهليل، وجلس خلف مكتبه في واحد من المحلات الـ 14 التي يتم فيها صناعة السيوف، بدءاً من تحديد المقاسات والمواصفات، وانتهاءً بصناعة العلبة التي يحفظ فيها السيف.

اللقاء الذي امتد لنحو ساعتين، تحدث فيه الصائغ بصراحة ووضوح، وتطرق إلى جوانب عدة تتعلق بمهنة أجداده، والمستقبل الذي ينتظر المهنة التي لولا «الكبار» لماتت، بحسب ما يقول الصائغ، من دون أن يسمّي «الكبار» الذين مازالوا يؤمنون ويعتزون بالسيف، باعتباره تراثاً عريقاً، وتحفة ثمينة تُهدى للزعماء والملوك.

ويشير إلى أنهم حصلوا أخيراً على أرض في منطقة الحد الصناعية، وستكون بمثابة الأمل لإحياء هذه الحرفة، وتطويرها، إذ إنهم يسعون إلى إنشاء مصنع للسيوف، بعد أن انتهوا من التصاميم الهندسية للمصنع.

عشق السَّيف... هنا كانت البداية

يُعيد الصائغ ذاكرته عندما كان في العاشرة من عمره، حيث كان في الصف السادس الابتدائي، ويرافق والده الحاج محمد الصائغ عندما يتوجه إلى دكانه في المحرق، ويساعده في حرفته الممتدة منذ مئات السنين.

تاريخ صناعة السيوف في البحرين كما يرويه الصائغ يعود إلى ثلاثة أشخاص، هم الأخ الأكبر يعقوب بن يوسف، وهو علّم أخاه أحمد بن يوسف، ومن ثم موسى بن يوسف، فهم لهم بصمة واضحة في تأسيس السيف، وأسسوا جزئيات السيف، والمصطلحات التي وضعوها لأجزائه مازالت موجودة، وتستعمل، وفوجئت أن هذه المصطلحات تستخدم في عمان واليمن، وهذا يعكس توحد المصطلحات المستخدمة للسيف وأجزائه في منطقة الخليج العربي.

ويؤكد أن أغلب سيوف حكام الخليج بحرينية، فبالعودة إلى الوراء قليلاً، تجد أن عمان والبحرين هما الدولتان اللتان كانتا نشطتين في الحرف والصناعات، ولذلك كان سكان بقية الدول الخليجية يذهبون إلى البصرة أو عمان أو البحرين للتسوق، والبحرين تعد مركز الصناعات ومميزة بصناعة السيوف.

ويشير إلى أن صناعة السيوف كانت تتم في جزء من مجلس العائلة، إذ تعمد العائلات إلى تخصيص جزء من مجالسها، وخصوصاً في المحرق، للصناعات والحرف، والجزء الآخر للضيوف. وكان الأجداد يعملون بأنفسهم، ويصنعون السيوف بأنفسهم، خلافاً لما هو عليه الحال الآن، إذ من النادر أو المستحيل أن يتمكن شخص من إتمام قطعة سيفه بمفرده، فالسيف لا يحتاج إلى صائغ فقط، بل لحداد ونجار.

السيف... من هيكله إلى لمعانه

يتطرق الصائغ إلى مراحل صناعة السيف، من كونه هيكلاً حديدياً، إلى أن يصبح بصورته التي أرادها صاحبه، فصناعة السيف لها مراحل، ويعتمد على الهدف من السيف، ومن يحمله هو الذي يقيده ويحدد مواصفاته.

ويؤكد أن السيف تبدأ صناعته من النصل (الحديد)، وهو الجزء الأساسي المكوّن له والعمود الفقري، ويحدد طوله، ودرجة انحنائه، فسيف الفارس يختلف عن المقاتل أو سيف العرضة. فالسيف أساساً يُستخدم في الحرب، وبالتالي تختلف مقاساته ومواصفاته بحسب استخدامه. ويشير إلى أن صناعة السيف تتطلب بالدرجة الأولى النصل، ومن الأخشاب (الجراب)، وبعدها المقبض، وهو يعتبر السيف كله، والاهتمام به يكون كبيراً، وهي أكثر أجزاء السيف تعقيداً، فيها الأوزان ومختلف ما يزيّن السيف، وهذا ما يميّز السيف البحريني، فالوقت المستخدم في صناعة أجزاء السيف المختلفة، يستخدم في صناعة المقبض والرموز.

ويؤكد أن جميع المعادن المستخدمة في صناعة السيوف والخناجر تحتوي على مواد أكسدة، قد تكون سموماً قاتلة.

ويوضح أن السيوف التي تُهدى تختلف عن المستخدمة في العرض أو الزينة، فهناك سيوف حصلت على شهادات وأختام مختلفة، وهي التي ترفع أسعارها. أما السيوف الشخصية، فيُكتب عليها اسم أصحابها في مكان محدد، من دون المسميات والألقاب، كما يكتب تاريخ الصنع في الجهة المقابلة.

أنواع السيوف... الهندي والدمشقي والفارسي

يبين الصائغ وجود 3 أنواع من السيوف، النوع الأول الهندي، وهو مشهور في منطقة الدكم الهندية، وقد تكون في وقتنا الحاضر حيدر أباد، ويمتاز بأنه أقوى أنواع سيوف الجوهر، وسيئته أنه أثقلهم.

أما النوع الثاني فهو السيف الدمشقي يعد الأجمل من بين السيوف، وبدأت صناعته نهاية الحكم العباسي، في أوج قوة المسلمين، وغلب عليه طابع التجميل، وفقد الخشونة التي يمتاز بها، ويعتبر تحفة جمالية.

فيما يعد النوع الثالث وهو السيف الفارسي، نوعاً يمزج بين الهندي والدمشقي، فصناعته قللت من الرسوم والتجميل، وتم تعديل وزنه ليكون أقل من الهندي وأعلى من الدمشقي.

ويذكر أنه لا يوجد طول أو وزن فعلي للسيف العربي والخليجي، وقد يكون للسيوف العسكرية أوزان محددة باعتبار أنها تستخدم للتمارين والتدريبات العسكرية. ويؤكد عدم وجود مدة محددة لصناعة السيف، فبعضها يأخذ أسابيع، وبعض أشهراً أو عاماً. كما لا يوجد سعر محدد للسيف، وشخصياً لم أقيّم طيلة عملي في مجال السيوف سعر أي سيف، لأنه أمر صعب. ويشير إلى أن كل سيف يُكتب عليه اسم صاحبه من دون أية ألقاب أو مسميات، ويكون ذلك في منطقة محددة من السيف، وفي جهة أخرى تاريخ صناعة السيف، والبعض يكتب لقب عائلته.

وعن أشهر أسماء السيوف وأهمها، يوضح أنها: سيف نصيف، الروضة، حنيش، والعنبري.

ويقول إن أشهر وأفضل من صنع السيوف في العالم، ولم يصل لمستواه أحد، هو شخص يسمى كَل بوعلي، فهو معروف بإتقانه وحرفيته في صناعة السيوف، حتى أنه تمكن من كتابة آية الكرسي 7 مرات على أحد السيوف، وخط كل مرة مختلف عن الأخرى.

السيف البحريني... مقدرٌ

في الخارج ومهمول في الداخل

يجيب الصائغ على سؤال عمّا إذا كانوا مستمرين في تصدير السيوف البحرينية إلى الخارج، بتأكيد ذلك، إلا أنه يأسف لعدم تقدير السيف البحريني داخل البحرين، في حين أنه مقدّر لدى الدول الأخرى.

ويقول إنهم سيشاركون في معرض بأميركا مختص بالغوص، وللسماح لهم بالمشاركة اضطروا إلى الدخول بنشاط الغوص وأدواته، ويؤكد أن منظمي المعرض انبهروا عندما شاهدوا نماذج من السيوف التي سيعرضونها في المعرض.

ويعتبر في طيات حديثه، أن السيف ليس معناه الخشونة والرعونة، بل هو رمز للرجولة والعدالة.

الاهتمام الرسمي... غائب

يؤكد الصائغ أن الاهتمام الرسمي بحرفة صناعة السيوف غائب، فلا توجد خطط لتطوير هذه الحرفة القديمة، وهو الأمر الذي يجعلهم يتوجسون ويخشون من اندثارها مستقبلاً. ويشير في هذا السياق إلى أن إحدى دور الطباعة والنشر أصدرت كتاباً ضمنته جزءاً يتحدث عن السيوف، إلا أن هذه الدار واجهت بعض المعوقات في طباعته في البحرين، ما اضطرها إلى الذهاب إلى أبوظبي، حيث تمت طباعتها هناك، ووصلوا إلى نسخة الطباعة الخامسة عشرة. ويؤكد أنه لا يريد الدعم المادي، بل الدعم المعنوي والعمل على التسويق لهذا المنتج البحريني، سواءً داخل البحرين أو خارجها، وجعله حاضراً في كل المناسبات، وأن يكون هو التحفة التي تقدم لأي ضيف يفد على البحرين.

لا سيوف تُصنع دون ترخيص «الداخلية»

يشير الصائغ إلى نقطة مهمة تتعلق بالترخيص للسيف، ويؤكد أن كل سيف يحمل رقماً رسمياً مسجلاً لدى وزارة الداخلية، فهي الجهة المعنية بإعطاء ترخيص اقتناء السيوف. ويلفت إلى أنهم يشترطون وجود كتاب موقع من وزارة الداخلية عندما يأتي إليهم أي شخص ويطلب منهم صناعة سيف له. ويؤكد أن العملية منظمة بهذه الصورة، وليست الخوف من عمليات قتل أو ما شابه بالسيف، فلا يوجد سلاح يقتل، فمن يقتل هو القلب قبل السلاح، بحسب رأيه.

وصلنا إلى اليابان

ونستورد أدوات السيف من دول شتى

لم يقتصر بيع السيوف البحرينية التي تُصنع في «ديباج» على السوق المحلية، بل وصلت إلى أسواق عالمية، ووفق ما يذكر الصائغ فإنهم وصلوا إلى اليابان وألمانيا وأميركا ولندن، وغيرها من الدول الخليجية.

وبسؤاله عن الدول التي يستوردون منها أدوات صناعة السيف، يبين أنها دول شتى، وكل جزء من أجزاء السيف يُستورد من بلد، ومنها بلجيكا، مؤكداً أنهم يحرصون على استخدام أدوات ذات جودة عالية، ويشترونها من أسواق عالمية.

الأبناء... على طريق الآباء في صناعة السيف

يؤكد أن ابنه محمد وأخاه أحمد عملا في صناعة السيوف، وهذه الصناعة أصبحت الآن أكثر إبداعاً وفنّاً. ويشير إلى أن والده عندما يريد تصميم شكل للسيف، يكون في طقوس خاصة، ولا يمكن لأحد أن يتحدث أو ينطق بكلمة في هذه الأثناء.

ويرى أن العرب لديهم انتماء واجتذاب نحو 3 أمور عندما يرونها، حتى وإن لم يكن الشخص مهتماً بها، وهي: الصقر، والخيل، والسيف، فهم ينجذبون نحوها لا شعورياً.

ويتساءل: «لماذا لا توثق أو تدرس هذه المهنة، فالسيف له دلائل وعلامات كثيرة، ويعتز به حكام العرب والخليج. ويقول بصراحة: «لولا الدعم من الكبار لانقرض السيف وانتهى، وهذه كلمة صريحة أقولها، وفي الحقيقة لا يوجد اهتمام رسمي بهذه المهنة، ولا يوجد دعم».

ويضيف «لماذا لا يكون السيف هو الهدية التي تُعطى للضيوف الذين يزورون البحرين ويشاركون في الفعاليات، وهذا يعد توثيقاً لتراث البحرين، بدلاً من الاكسسوارات والهدايا الأخرى».

عُرفاً... النساء لا يحملن السيف

يلفت مدير محلات الديباج للسيوف إلى أن الأعراف والتقاليد تمنع النساء من حمل السيوف، فلا يمكن لهن ذلك، ولو على سبيل الزينة، بيد أنهن يستطعن حمل ما تُعرف بـ «الشبرية» وهي شبيهة بالسكين.

ويقول إنهم أوجدوا البدائل للسيف لتكون خاصة بالنساء، من بينها المبخر المصنوع من الفضة البحرينية الخالصة، والشبرية، والمرش، إلى جانب الدلال.

صاحب الحرف لا يموت جوعاً

يرى الصائغ أن صاحب الحرفة لا يموت جوعاً، والبحرينيون معروفون بأنهم أصحاب حرف، ويتوارثونها جيلاً بعد جيل، فهناك حرف وإبداعات كثيرة لديهم، ولذلك صاحب الحرفة لا يموت جوعاً، فهو يبدع دائماً.

ويشير إلى أنهم ومن خلال هذه الحرفة، استطاعوا استقطاب عدد كبير من المشاهير، سواءً الفنانين أو المطربين أو غيرهم، فهم يتوافدون إلى المحل عندما يأتون إلى البحرين، ويحرصون على التقاط صور باللباس البحريني وهم يحملون السيف، ويعتبرون هذا الأمر عزيزاً عليهم.

وإلى جانب ذلك، يستقبل المحل طلاباً من المدارس وغيرها، ويشير الصائغ في هذا السياق إلى أن طالبة أغمي عليها ذات مرة، وذلك بعد أن أخرجت السيف من غمده.