عناويننا لا تعكس حقيقتنا «عادة». فعندما أقول: محمد فإني أختصر جسماً وعُمْراً وفعلاً وأفكاراً وسلوكاً ومشاعر. اسمٌ من أربعة حروف لن يُوفِّي وصْفَ هيأتي ولا عدد السنين التي قضيتها في هذه الحياة، ولا طريقة حركتي فيها، ولا طبيعة القناعات التي أحملها، ولا شكل معاملتي مع نفسي وأهلي ومحيطي، ولا حقيقة الشعور الذي كنتُ أخبِئه تجاه الآخرين.

هذا هو البَوْن الشاسع بين الاسم وحقيقة حامله. ولو وضَعنا هذه القاعدة على الكثير من الأشياء سنرى أنها صالحة معها كذلك. فعندما نقول عن شخص أنه عاش ثمانين سنة، فإننا نختصر حقيقة عمره في رأس إبرة لا أكثر. فحقيقة تلك السنين أنها كانت طفولة، ثم طفولة أولى، فثانية، فمراهقة، فرُشْد، فشباب، فكهولة، فشيخوخة مبكرة، فمتأخرة، فأرذل العمر.

وهذه المُسمّيات لمراحل عمر الإنسان، هي ذاتها لا تعكس حقيقة لفظها. فعندما نقول: طفولة فهي تعني 1095 يوماً. وعندما نقول: طفولة أولى فهي تعني 730 يوماً. وعندما نقول: مراهقة فهي تعني 3285 يوماً، وبمثل عدد تلك الأيام لمرحلتَيْ الرشد والشباب. وعندما نقول: كهولة فهي تعني 7300 يوم، وبمثل ذلك العدد لمرحلَتَيْ الشيخوخة. أما أرذل العمر فهي قد تزيد عن تلك الأيام.

إذاً، ما هو اللفظ الأقدر على استيعاب كافة مسمّيات حياة البشر؟ بمعنى: هل هناك من لفظٍ يستطيع أن يتلمَّس ويتلمَّظ اسمي وفي نفس الوقت جسمي وعُمْري وفعلي وسلوكي ومشاعري، وبالتالي يُدرك حقيقة الأشياء في حياتي؟ نعم يوجد! إنه الأم. فأمهاتنا هُنَّ مَنْ يعلَمْنَ ويشعُرنَ بِكُنهِ أسمائنا وبالتالي مراحل عمرنا، (وفي مرحلة تالياً آباؤنا). فأمُّ الشيء يعني أصله كما جاء.

لماذا اختصَّت الأمهات بذلك؟ الجواب: لأنهنّ (في العادة) هُنَّ مَنْ يضطلعنَ بحَملِنا ووضعنا ورضاعتنا وتربيتنا في أغلب مراحل عمرنا. وعندما يكون الأمر كذلك، فهذا يعني أنهنَّ الأقدر على عَدِّ الليالي والأيام التي قضَيْنها وهُنَّ في سهَرٍ وشغل في تربيتنا، وفهمٍ للفرح والألم، والإحساس بالصحة والمرض لكل ما نشعر به ونعاني منه. وحتى عندما نكبر فإنهنّ يبقَين في مراقبتنا بلهفة.

هذه المواكبة الحثيثة للتربية والشعور بفلذات أكبادهن، يُولِّد لديهن حباً من نوع آخر. حُبٌّ يصل إلى شَغاف القلب. والشّغاف هو غلاف القلب أو شحمة تكون لباساً له، وجلدة دُونَه كما جاء. لذلك، يكون حبّ الأمهات «عادة» مختلفاً عن أيّ حب آخر. وحين يحمل أحدٌ مثل هذا الشعور والإدراك لتفاصيل حياتنا، يتحوَّل حامله إلى الجهة الحقيقية لانعكاسنا في هذه الحياة وهذا العمر.

عندما ندرك ذلك، ندرك معه طبيعة التفاعل الذي ينتج عن ذلك الشعور الأمومي مع الأبناء. فحين يُصبح الإنسان في فرح فإن عليه أن يقتنع مباشرة، أن أول مَنْ يشعر به هو أمه. وحين يُصيبه مكروه، فإن أزيد مَنْ سيتألّم له هو أمه أيضاً، لأنها تختصر في داخلها كل تفاصيل حياتنا، فهي تحبه لأنها تحب شيئاً بداخلها تجده فيه، وهو بالضبط ما كان يقوله هرمان هسة ولكن عن الكره.

هنا، يبقى شيء واحد نجهله في أمهاتنا، أو بصورة أدق لا نستطيع أن نتخيّله أو نتصوّره على حقيقته. إنه حجم الألم (والفرح كذلك) الذي يشعرن به حين يفقدن أبناءهن. وربما أبلغ تعبير في ذلك هو حين سُمّيت الفاقدة لولدها بالثّكْلَى. وكانت العرب تقول: ثَكِلَتْك الثَّكول، ويعنون بها الأم كما قال ابن سيده. وحين نأتي إلى معنى كلمة الثُّكْل نجد أنها تعني الموت والهلاك، ويا له من معنى يحمل دلالات عميقة. ذلك المعنى الذي يفيد بأن موت الولد كأنه موتٌ للأم كذلك.

هذا الشعور، وهذا الحسّ عند الأمهات، الذي يفيض بالمشاعر والحب الخاص تجاه أبنائهن، يجب أن يعيه البشر بتفاصيله (رغم بُعد فهم حقيقته)، وبالتحديد أولئك المتلاعبين بسفك الدماء، حيث باتَ إهدار الدّم لديهم شيئاً عادياً. عليهم أن يُدركوا بأنهم حين يُثكِلون الأمهات فإنهم يَنحَرون ليالٍ وأياماً سَهَرنَ فيها، وأمَّلن في هذا الولد أن يبلغ مبلغه ويستمتعن بشبابه، ثم يحمِلهُنّ في كهولتهنّ. أستحضر هذا وأنا أرى ما يجري في هذا العالم من ظلم وقسوة لا يتحمّلها قلب.

على أولئك أن يفهموا (وقبل أن يُكملوا غريزة القوة) بأن صرخة الأم على فَقْدِ ولدها قد تساوي صرختها وهي تُخرجه إلى الدنيا يوم ولادته، حين يصل بها الأمر أن تكون غير قادرة عن إخراج صوتها من شدّة الألم، وهي لحظة تكون فيها قريبة من الموت كما هو معروف. لذلك اختُصّ دعاؤها عن غيرها في تلك اللحظة. هذا أمر جدير بالتأمل، كي يعِي هؤلاء حجم الذنب الذي هم فيه.

أختم بقصة ذكرها الشيباني وأوردها ابن عبد ربه في العقد الفريد. القصة تقول بأن امرأةً من هُذَيْل كان لها عشرة إخوة وعشرة أعمام؛ فهلكوا جميعاً في الطاعون؛ وكانت بكراً لم تتزوج؛ فخَطَبَها ابن عمَّ لها فتزوّجها. فلم تَلبَث أن اشتَمَلت على غلام فَوَلَدَته، فَنَبَتَ نباتاً كأنما يَمدّ بناصيته وبَلَغ، فزوّجَته وأخَذَت في جِهَازِه، حتى إذا لم يبقَ إلاّ البناء أتاهُ أجَلُه، فلم تشقّ لها جيباً، ولم تدمع لها عَيْن؛ فلما فرغوا من جِهَازِه دُعِيَت لتودِيعه، فأكبّتْ عليه ساعة، ثم رَفَعَتْ رأسها ونَظَرَت إليه وقالت:

ألا تلك المسرّةُ لا تدومُ

ولا يبقى على الدهرِ النعيمُ

ولا يبقى على الحدثان غفرٌ

بشاهقةٍ له أمٌّ رءومُ

ثم أكَبّتْ عليه أخرى، فلمْ تقطع نحيبها حتى فاضت نفسها، فدُفِنا جميعاً.