أحرص في زياراتي لعاصمة النور (باريس) على تفقُّد متاحفها، والتي هي الأفضل في العالم من حيث غناها وجمال معمارها، ومن أهم هذه المتاحف متحف دورسيه، الذي يعتبر أهم متحف فرنسي بعد اللوفر.
مبنى متحف دورسيه والذي يقع على ضفة نهر السين، يضم أيضاً مبنى الجمعية الوطنية، ووزارة الخارجية، وقد أنشئ كمحطةٍ لسكة حديد ضمن الاستعدادات للمعرض الدولي الذي أقيم في باريس في العام 1900، وعقد في مبنى غراند باليه؛ أي القصر الكبير. وظل المبنى كمحطة سكة حديد إلى أن قُرِّر في العام 1977 تحويله إلى متحف فني، افتتح في العام 1986 ليضم مختلف الفنون من الرسم والنحت والصور والديكورات للمرحلة الحديثة الممتدة من 1886 حتى 1914، وبهذا يضم المتحف نماذج من النتاجات الفنية لهذه المرحلة مثل: الكلاسيكية الحديثة والانطباعية، والانطباعية الحديثة، والتكعيبية والسوريالية وغيرها.
لقد سبق أن زرت المتحف في التسعينيات، ولكنني في زيارتي هذه، فوجئت بالتغييرات الكبيرة في المتحف من حيث إعادة معماريته، أو إعادة ترتيب الأجنحة أو العدد الكبير من المقتنيات وتنوعها. فقد بُنيت أجنحة داخل المبنى الضخم، وهذا ممكن لأن تصميم المبنى كمحطة للسكة الحديد يعني توافر فراغ كبير، ولكن رُوعي في بناء هذه الأجنحة أن تكون منسجمةً مع البنية الأصلية ومن الأحجار والرخام، كما أضيف الجناح الخامس في أعلى المتحف ليضم صالةً كبرى تضم نماذج من أعمال كبار الفنانين الانطباعيين من تماثيل ولوحات، حيث خُصّص جناح فرعي لكل من أهم الفنانين الانطباعيين مثل النحاتين: رودان ومومبو ومانيه ودومير؛ والرسامين: سيزان وفان جوخ وبازيل ورينوار وبوناردر ومونيه وسيخباك وديجاس، وجوجان؛ والكلاسيكي الحديث مثل ديلاكروا وكوربيت، والسوريالي مثل رانسون.
لكن المفاجأة كانت في تنظيم المعرض الشامل لواحدٍ من علامة فن ما بعد الانطباعية والذي أسس مدرسة الفطرة أو البراءة الفنان هنري روسو، والذي أبدع في عدة فنون مثل الرسم والنحت والإكسسوارات، كما أنه إضافةً إلى كونه فناناً، فهو مقتنٍ لأعمال فنية ثمينة ونادرة. وتتنوع أعمال روسو الفطرية ولكنها تستمد روحها من العودة إلى الفطرة البشرية والعودة إلى الطبيعة. ولم يكن جمع أعمال ومقتنيات هنري روسو في متحف دورسيه سهلاً؛ إذ تطلّب الأمر تعاون عدّة متاحف موزعة على امتداد العالم والتي لديها بعض مقتنيات روسو، ومنها متحف فينيسيا، الذي جرى فيه أول عرض لأعمال ومقتنيات روسو في العام 2015 ضمن مشروع أرشيف الفطرة، هنري روسو، ومتاحف عديدة أهمها متحف بولونيا ومؤسسة الفن في شيكاغو، ومتحف بوردو ومتحف بريمن ومتحف ايكستر ومتحف القدس ومتحف هالة ومتحف لوكارتو ومتحف مرسيليا ومتحف ميلان ومؤسسة ميلان للفنون ومتحف مونتريال ومتحف بوشكين بموسكو ومتحف ناجانو باليابان ومتحف باولا وبيبلوغرافيا باريس الوطني ومركز بومبيدو بباريس وكلية باريس للفنون ومتحف باريس للفنون الحديثة، ومحتف أورنجيري بباريس ومتحف اللوفر ومتحف بيكاسو بباريس، ومتحف فيلادلفيا ومتحف براغ ومتحف سانت بترسبورج ومتحف تورنتو ومتحف فينيسيا ومتحف كارنيجي في بتسبورج، وبالطبع متحف دورسيه الذي يضم أكبر عدد من أعمال روسو.
وقد أصدر متحف فيينا وهو المحطة الأولى في جولة أعمال ومقتنيات روسو، كتاباً ملوناً ضخماً في 280 صفحة يضم عرضاً للمشروع والقائمين عليه والمتاحف المساهمة، مع دراسات للمدرسة الفطرية التي يعتبر روسو من أبرز روادها وفنانيها، وكذلك تحليلاً لأبرز فناني المدرسة الفطرية مثل بيدرو فرانسيسكا وساندرو بوشيلي وبترو لونجي وجين ايتيان ليونارد وباولو فينسينز وبونو ميني وإيليا ماشكوف وفريدا كاهلو وجرانت وود وأندري ديرين وكابو كارا وفرانز مارك وفيليكس أوجست كليمنت وفرانسيسكو جوز وجيمس إنسور ووليم ايماجورو، وغيرهم، مرفقاً به بعض أعمال كل منهم.
والحقيقة، أن الكتاب يعتبر موسوعةً في الفن الفطري، وشمل إلى جانب المقدمة سبعة فصول وثمانية كاتلوجات وثلاثة ملاحق، وإلى جانب هذا الكتاب الموسوعة هناك كتب وكتيبات أصغر تختص بكل فنان، وقرص مضغوط.
تنظيم متحف روسو سهل ممتنع، فقد تحوّلت محطة القطار الضخمة إلى متحف يضم في الوسط مساحة مفتوحة توزّعت على جانبيها التماثيل والنصب، ثم الأجنحة على الجانبين بطابقين، وخُصّصت الصالة الكبرى في أعلى المتحف وتضم العديد من أعمال فناني الانطباعية حيث لكل منهم جناحه. ونظراً للوقت الطويل الذي يتطلبه تفقد المتحف، فقد وضعت أرائك للاستراحة وكذلك مطعم رئيسي وعدد من المقاهي. وعلى رغم أن التصوير ممنوع إلا أن الغالبية تستخدم هواتفها النقالة للتصوير. فعلاً إن متحف روسو يمثل كنزاً من المعارف الفنية ومتعة بصرية لا تضاهى.