العدد 4956 - الجمعة 01 أبريل 2016م الموافق 23 جمادى الآخرة 1437هـ

حضارة العُبيد وفرضيات حول نشأة هوية دلمون

المنامة - حسين محمد حسين 

تحديث: 12 مايو 2017

من خلال ما قدّمناه في الحلقات السابقة، يتضح جلياً أن هوية دلمون ظهرت بوضوح قرابة العام 3000 ق.م.، إلا أنه لا يُعلم بالتحديد متى بدأت تتكوّن هذه الهوية؛ حيث أنه لا توجد نقوشات أقدم من هذا التاريخ تشير لهويات الحضارات التي سبقت سومر، سواءً تلك التي نشأت في جنوب بلاد الرافدين أو على سواحل الخليج العربي.

يذكر أنه في قرابة نهاية الألف السادس قبل الميلاد، بدأت تظهر حضارات على سواحل الخليج العربي. هذه الحضارات عبارة عن قرى متفرقة منتشرة على امتداد الساحل الشرقي للجزيرة العربية، وكذلك في الجزر المحاذية لهذا الشاطئ بما في ذلك البحرين. هذا وقد نشأت علاقة تجارية بين هذه القرى الحضرية وجنوب بلاد الرافدين قبل أن تنشأ حضارة سومر. وأثناء هذه العلاقة التجارية والاندماج الحضاري بين جنوب بلاد الرافدين وساحل الخليج العربي بدأت هوية دلمون تظهر، وانتشرت في الكتابات التي ظهرت لاحقاً.

لا نعلم بالتحديد أين بدأت تنشأ هذه الهوية الدلمونية، إلا أن البعض يرجّح أنها نشأت على سواحل الخليج العربي. لا يمكن بأي طريقة تأكيد ذلك؛ بسبب عدم وجود ذكر أي مسميات أو هويات للحضارات التي نشأت قبل سومر. حتى في بلاد الرافدين، لا نعلم هوية الجماعات التي أسست لنفسها حضارة في تلك المنطقة قبل ظهور المدن السومرية، وإنما أطلق المنقبون على تلك الحضارة اسم «حضارة العُبيد». وقد عُرفت، هذه الحضارة، بهذا الاسم نسبة لتل العُبيد الذي يقع على بعد ثمانية كيلومترات إلى الجنوب الغربي من موقع أور المشهور. وقد تمكن الباحثون من تقسيم فترة العُبيد إلى أربع مراحل رئيسة، تؤرّخ جميعها إلى ما بين نهاية الألف السادس ومنتصف الألف الرابع قبل الميلاد، عندما بدأت حضارة الوركاء بالانتشار (الغزي 2006)، (Nayeem 1992, p. 303) .

يُذكر أن تقسيم فترة العُبيد، استند إلى التسلسل الطبقي في تل العُبيد ومواقع أخرى، بالإضافة إلى نتائج دراسة المادة الأثرية وخاصة الأواني الفخارية المكتشفة في التل المذكور، والتي تظهر مدهونةً بلون واحد، إما أن يكون أسود أو بنياً، نفذت به عناصر زخرفية لها أشكال هندسية ونباتية ورسوم لحيوانات بحرية وبرية، وقد يجمع العناصر الزخرفية الثلاثة نموذج زخرفي واحد. وحيث إن هذا النوع من الفخار قد نال اهتمام الباحثين نظراً لتميّزه، فقد أصبح المادة الأساسية التي تعرف بها تلك الفترة وتقسيماتها الفرعية داخل بلاد الرافدين وخارجها (الغزي 2006). ونلاحظ هنا أن فخار العُبيد أصبح رمزاً يدلل على هوية الشعوب التي أسست الحضارة التي سبقت حضارة السومريين.

حضارة العُبيد وسواحل الخليج العربي

عثر على الفخار المميز لحضارة العُبيد في العديد من المواقع على سواحل الخليج العربي. وفي البحرين، بدأ ظهور فخار العُبيد منذ نهاية الألف الخامس الميلادي؛ حيث وجدت هذه الكسر بشكل خاص في مستوطنات صيادي الأسماك في منطقة المرخ (انظر الخارطة المرفقة)، وموقع عين أم إجراي في كرزكان، ومنطقة أخرى ما بين قريتي الدراز وباربار (Larsen 1983, appendix II). وتشير الدراسات الأولية التي قامت بها Oates وزملاؤها على كسر فخارية منتخبة من فخار العُبيد من مواقع مختلف في بلاد الرافدين، وشرق الجزيرة العربية، والبحرين، وقطر، أن الفخار الذي عثر عليه على سواحل الخليج العربي كان مستورداً من بلاد الرافدين، وعليه تم صياغة نتيجة مفادها أن هذا الفخار لا يدل بالضرورة على إقامة دائمة في هذا الموقع وربما يشير لإقامة موسمية لجماعات قدمت من بلاد الرافدين (Oates et. al. 1977). وفي دراسة حديثة على فخار العُبيد من ست مواقع مختلفة من العراق والكويت وشرق الجزيرة العربية وإيران، تم تأكيد أن فخار العُبيد له منشأ واحد وهو بلاد الرافدين (Carter 2010).

إلا أن المرجح، من خلال نتائج الآثار الحديثة، أن القرى التي نشأت على سواحل الخليج العربي لم تكن قرى موسمية، بل عمليات استيطان دائمة لجماعات سكانية طوّروا لهم ثقافة خاصة في تلك المناطق، وقد ارتبطت هذه الجماعات بعلاقات تجارية مع جنوب الرافدين، وقامت باستيراد فخار العُبيد وذلك ضمن عمليات تبادل السلع التجارية (Frifelt 1989)، (Beech et. al. 2000)، (Carter 2010) .

الهجرة نحو بلاد الرافدين

يرجح بعض الباحثين، أن سكان المستوطنات التي نشأت في الأطراف الشمالية لشرق الجزيرة العربية بدأت تتداخل بصورة مباشرة بين سكان جنوب بلاد الرافدين، وهذه العلاقة بدأت تتطور عبر الزمن (عبد النعيم، ترجمة الأنصاري، 1995، ص 407).

مع نهاية الألف الخامس، بدأت المستوطنات التي نشأت على سواحل الخليج العربي تتناقص؛ وربما يعود ذلك إلى تغيّر الظروف المناخية التي أدّت إلى أن تكون منطقة شرق الجزيرة العربية شبه خالية من السكان (Uerpmann 2003). ويرى عبدالله مصري، في أطروحته لنيل درجة الدكتوراة التي قدمها عام 1974 حول ما قبل التاريخ في جنوب شرق الجزيرة العربية (انظر عبد النعيم، ترجمة الأنصاري، 1995، ص 409)، أن نظام التبادل الحضاري بين جنوب شرق الجزيرة العربية وبلاد الرافدين لعب دوراً فاعلاً في تشكيل حركة تحول استيطاني وحضاري باتجاه جنوب بلاد ما بين الرافدين. وقد ترتبت على ذلك هجرات متوالية من شرق الجزيرة العربية باتجاه جنوب بلاد الرافدين.

وكذلك ترى Piesinger، في أطروحتها التي قدّمتها لنيل درجة الدكتوراة حول إرث دلمون في شرق الجزيرة العربية، بأن هناك روابط عرقية تربط سكان شرق الجزيرة العربية وجنوب بلاد الرافدين، كما ترجح وجود مكون حضاري ثانوي في المجتمع السومري يمثل امتداداً للجماعات المهاجرة من شرق الجزيرة العربية، والتي احتفظت بعلاقات قبلية بشرق الجزيرة العربية. وقد استطاعت هذه المجموعات السكانية التي تقطن شبه الجزيرة العربية والخليج العربي أن تكيّف حياتها على أسفار البحار، وكان من بينها مجموعة من التجار السومريين المشتغلين في التجارة البحرية والمعروفين باسم «أليك – دلمون» (Piesinger 1983, pp. 837-838).

يلاحظ أن Piesinger تشير بصورة ضمنية إلى أن هوية دلمون نشأت في شرق الجزيرة العربية وذلك قبل نشوء سومر في بلاد الرافدين، وقد انتقلت هذه الهوية إلى بلاد الرافدين. لا يُوجد ما يؤكد هذه الفرضية، إلا أن نظرية استمرارية وجود علاقات عرقية وقبلية بين بلاد الرافدين وشرق الجزيرة العربية وجد ما يعزّزه في الدراسات الحديثة؛ حيث ظهرت دراسة حديثة تؤكد وجود روابط عرقية أو قبلية بين الجماعات في وسط بلاد الرافدين وشرق الجزيرة العربية، وبالتحديد في حقب حضارة دلمون، حيث تم العثور على تلال قبور في وسط بلاد الرافدين شبيهة بتلال القبور الدلمونية (Kepinski 2007).

الخلاصة

مما سبق، يلاحظ أن عدداً من الباحثين يرجّحون وجود نشوء مستوطنات حضارية على سواحل الخليج العربي منذ الألف الخامس للميلاد، وأن هذه المستوطنات كانت لها علاقات تجارية بينها وبين بلاد الرافدين، وقد نشأ عن ذلك تداخل في السكان، وهجرات متتالية من شرق الجزيرة العربية لجنوب بلاد الرافدين. ويرجح بعض الباحثين، وإن كان بصورةٍ ضمنية، أن هوية دلمون الأولى نشأت في شرق الجزيرة العربية، ثم انتقلت إلى بلاد الرافدين، وذلك مع الجماعات المهاجرة والتي كوّنت لاحقاً مكوناً حضارياً ثانوياً ضمن حضارة سومر وحضارات وادي الرافدين اللاحقة. ولعل هذا يفسّر الأهمية الخاصة لدلمون ومعبوداتها القديمة في الأساطير الدينية السومرية المتأخرة. بالطبع، هذه الفرضية تتقاطع مع فرضيات أخرى حول هوية دلمون، سوف نتناولها بالتفصيل في الحلقات القادمة.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً