قبل 46 عاماً، كان الباحث محمد رضا المعراج، خريج القسم العلمي (ثانوية عامة)، يضع قدميه على أولى عتبات مشواره المهني.
يختار له القدر، أن يعمل في متحف البحرين الوطني (السكرتارية)، فتقع عيناه هناك على المعروضات من اللقى الأثرية، فيولد الولع بتاريخ 5 آلاف عام من الحضارات المتعاقبة على مملكة البحرين.
أبعد من ذلك، يدفعه الولع للبحث عن المزيد، فيراسل مدير المتحف العراقي سنة 1970، ليرد عليه هذا الأخير بطرد بريدي محمل بكتب تتحدث عن الآثار في العراق، و«التي ماأزال أحتفظ ببعضها»، يقول المعراج.
لماذا العراق؟
يجيب المعراج «بسبب قربها الجغرافي والحضاري، واعتقادي أن دراسة حضاراتها سيفيدني في التعرف على حضارات البحرين».
ترتيبات القدر لا تتوقف. يقول المعراج: «تشاء الظروف أن ينتدب نائب مدير المتحف العراقي للبحرين لتطوير قسم الآثار، فتكون المفاجأة. رسالتي كانت قد وصلت إليه، وهو من بعث لي بالكتب!».
وأضاف «حين تعارفنا، أرشدني لدراسة الآثار في جامعة بغداد، وسعى لتسهيل ذلك عبر مخاطبته المرحوم الشيخ عبدالعزيز بن محمد آل خليفة (لاحقاً شغل منصب وزير التربية والتعليم)، ولأوفق للحصول على بعثة للعراق، تحديداً في قسم الآثار بكلية الآداب في جامعة بغداد».
وتابع «أنهيت الدراسة العام 1975، لأعود للبحرين بمؤهل بكالوريوس الآثار في القسم القديم، ولأعمل في قسم الآثار التابع لوزارة الإعلام آنذاك، حتى عرضت عليّ هذه الأخيرة مواصلة التعليم، وكان ذلك العام 2002، حين حصلت على شهادة الماجستير من جامعة اليرموك بالأردن، وكانت بعنوان «عادات الدفن في تايلوس»، وبعدها بعامين (2007)، كانت لحظة التقاعد من العمل».
التقاعد... وتماثيل تايلوس
هكذا رأى الباحث محمد رضا المعراج، مرحلة التقاعد. ومنها انطلق للمملكة العربية السعودية لإتمام متطلبات الحصول على شهادة الدكتورة.
يعلق على ذلك، بالقول: «في جامعة الملك سعود، ناقشت أطروحتي للدكتوراه التي حملت عنوان «تماثيل فترة تايلوس في البحرين... دراسة تحليلية مقارنة)»، ومع نهاية العام 2015 طلب مني بعض التعديلات، لكني أبلغت في الوقت نفسه بالموافقة والنجاح، ومن المقرر أن أتسلم الشهادة في وقت قريب».
وتحدث المعراج بتفصيل عن أطروحته أو رسالته، فقال: «اخترت التماثيل، وكانت موضوعاً صعباً، واقتصرت في ذلك على فترة تايلوس، ولأصبح أول بحريني يسلك هذا الاتجاه».
وأضاف أن «173 تمثالاً هي مجموع ما تمتلكه البحرين من فترة تايلوس، بعضها في متحف البحرين الوطني، وآخر في متحف قلعة البحرين، وثالث محفوظ في المخازن وهي تمثل النسبة الأكبر»، مشيراً إلى أن هذه التماثيل تندرج لأنواع من حيث المادة المصنوعة منها أو الخامة، فهنالك الحجر، الطين، الجص، والمعادن المختلفة.
وتابع «بدأت مشوار الدراسة، فعملت على تصوير التماثيل ورسمها، وتحديد قياساتها وتفاصيلها، ثم قسمت الأطروحة لأربعة أقسام. القسم الأول حمل عنوان «الدراسة الوصفية والتصنيفية»، حيث عملت على وصف التماثيل من حيث مقاساتها ومكان العثور عليها... فيما كان التصنيف إلى مجاميع بحسب الخامة، وكل مجموعة تنقسم لأنواع، والأنواع تتفرع».
وأردف أن «الفصل الثاني حمل عنوان «الدراسة التحليلية والمقارنة»، فبدأت كل قطعة، كيف نحتها النحات، نوعية الأدوات المستخدمة (الأزميل)، أما المقارنة فكانت مع ما هو موجود في العالم من مثيلاتها، في الأنباط (الأردن)، تدمر (سورية)، الصالحية (سورية)، الحضر (العراق)، ثاج (المنطقة الشرقية بالسعودية)».
وواصل «جاء بعد ذلك، الفصل الثالث تحت عنوان «الخصائص الأسلوبية لفن النحت في تايلوس»، وقد تطرقت فيه لمميزات النحت في تايلوس، والتي تختلف عن نظيراتها في فترة دلمون، أما الفصل الرابع فقد تناول (الدلالات الفنية والحضارية)».
نتائج لم يتوصل لها الأوروبيون
بنبرة طغى عليها الاعتزاز، تحدث المعراج عن توصله، من خلال دراسة تماثيل تايلوس، لنتائج لم يتوصل لها الأوروبيون طوال نصف قرن من بعثاتهم للبحرين، مضيفاً «يعود ذلك لتفضيلهم التنقيب في التلال الصغيرة، بسبب تواجدهم لمدة 3 شهور فقط، في الوقت الذي فضلت فيه العمل في تل كبير لمدة 5 سنوات، من 2000 حتى 2005، قبل إزالته من منطقة الشاخورة وبناء بيوت في موقعه».
وفي تبيانه لأبرز نتائج أطروحته، قال المعراج: «كان الرأي الموجود أن التماثيل عبارة عن «شواهد قبور»، لكني توصلت لخلاف ذلك، تحديداً فيما يتعلق بالغالبية، واعتمدت على ذلك بالاتكاء على جملة نقاط، فالعدد المحدود من التماثيل لا يتطابق مع عدد القبور، فلدينا مثلاً 6 تماثيل لـ 400 قبر، والفارق لا يوحي بأن الغرض من التماثيل هو اعتبارها «شواهد قبور»، بل لارتباط ذلك بقدسية دينية، فنحن أمام أنصاب تعبد في فترة ما قبل الإسلام، ويتناغم ذلك مع ما جاء في القرآن الكريم».
وأضاف «عزز من ذلك، توصلي لـ 4 طرق مختلفة توضع فيها التماثيل، فإما أن يوضع التمثال في حجرة صغيرة لوحده (قد تجد فيها تمثالاً أو أكثر، كما حصل في الشاخورة أو أبوصيبع حين عثر على تمثالين في غرفة)، وإما أن يستند التمثال أمام جدار قوسي يحيط بالقبر، (كما وجدت في الشاخورة، فأمام التمثال عثر على محار، ولا وجود لعظام تدلل على أننا أمام قبر، لذا كان الترجيح أن المكان له طقوس معينة وقد يكون بمثابة معبد في المقبرة، وعزز من ذلك عثورنا على طبقة من الرماد في الغرفة، وفي سابقة لم يفعلها الأوربيون، قمت بنخله لأكتشف محتوياته التي شملت كساراً من الفخار. عظام أسماك وحيوانات، نواة الرطب، وكل ذلك يشير لموائد وولائم تقدم في المعابد، التي هي عبارة عن مبانٍ لها وظيفة قدسية، تتضمن طقوساً معينة وتمثل فترة ما قبل الإسلام».
وتابع «أما الطريقة الثالثة لوضع التماثيل، فكانت عبارة عن منصة (قاعدة من الجص) وعليها التمثال وتقع عادةً في مدخل المقبرة، فيما تمثلت الطريقة الرابعة والأخيرة في العثور على مجاميع من التماثيل، بحيث كان يعثر على مجموعة منها في قبر واحد».
عطفاً على ذلك، دعا المعراج لتصحيح المعلومة الخاصة بتماثيل فترة تايلوس، والتي اعتبرها «معلومة خاطئة»، مضيفاً أن «تماثيل تايلوس ليست شواهد قبور كما يذكر الأوروبيون».
كما تناول بعضاً من نتائج أطروحته والتي اعتبرها «حقائق مدعمة بأدلة دامغة»، فقال: «بساطة النحت تدلل على أن النحاتين محليون (بحرينيون)، وهذا لا ينفي تأثرهم بأسلوب النحت في الحضارات المحيطة، وبالنسبة للنحت، نحن أمام نوعين، واقعي وتجريدي (له الغلبة عددياً)، فيما يشير تفاوت أسلوب النحت إلى أننا أمام مدارس فنية وورش عمل محلية».
ونوه المعراج بعزمه على ترجمة أطروحته ليطلع عليها الأوروبيون، وليبقى المجال مفتوحاً للرد عليها وعلى نتائجها، معتبراً أن الأطروحة تفتح منافذ لدراسات أخرى، وموضحاً بعضاً من توصياتها الداعية للاهتمام بالتماثيل وصيانتها وترميمها، والحفاظ عليها.
من هذا الى اكثر ان شاءالله.. اتمنى لك كل التوفيق والنجاح
العزيز د. محمد
رائع ما قمت به من انجاز انك نموذج للإنسان البحريني الطموح الذي يقهر العزل والتهميش وكل صنوف المحبطات...
نترقبك سريعا على المنصات كي ننصت إلى حكاتيك عن قرب مع التماثيل...
منى عباس فضل