يلقي انخفاض أسعار النفط بضغوط إضافية على الأزمة الراهنة في مصر. في حين أن المنطق يقول إن خزينة الدول المستورِدة للوقود، مثل مصر، تُفيد من تراجع أسعار الطاقة، التأثير الصافي على الاقتصاد المصري سلبي بطريقة مفاجئة. فهذه النزعة تتسبّب، أقله في المدى القصير، بتفاقم أزمة احتياطي العملات الأجنبية التي بلغت أصلاً أحجاماً كبيرة جراء التراجع الشديد في عائدات السياحة والصادرات الصناعية بحسب ما قال مركز "كارنيغي".
في المدى الطويل، يُفترَض أن تُفيد مصر من تراجع أسعار النفط عبر انخفاض نفقاتها على استيراد الغازولين والغاز ودعمهما. بالفعل، تراجع الإنفاق على الدعم الحكومي للبترول والغاز الطبيعي من 73 مليار جنيه مصري (8.2 مليارات دولار أميركي) في 2014-2015 إلى 55 مليار جنيه مصري (6.2 مليارات دولار) في 2015-2016. يعود هذا، جزئياً على الأقل، إلى الهبوط الشديد في أسعار النفط الذي قد يكون له في نهاية المطاف تأثير إيجابي على التضخم ويتيح لمصر تخطّي النقص في الطاقة الذي تعاني منه منذ أربع سنوات. في الإجمال، قد تؤدّي هذه المعطيات إلى تحقيق نمو اقتصادي في المستقبل.
لكن، ولجملة أسباب، يلحق الهبوط في أسعار النفط الأذى بالاقتصاد المصري في المدى القصير. أولاً، تشكّل البتروكيماويات التي تحتل الحيّز الأكبر بين الصادرات المصرية، أحد المصادر الأساسية للعائدات بالدولار الأميركي. وفي بلدٍ يعتمد على الواردات بقدر مصر، يُعتبَر الوصول إلى العملات الأجنبية (لا سيما الدولار) أمراً أساسياً. تراجعت إيرادات مصر من تصدير الطاقة، وأحد الأسباب هو انخفاض أسعار الطاقة. كما أن العجز عن تسديد مستحقات شركات الطاقة بالدولار يساهم في تراجع إنتاج الطاقة المحلي، وبالتالي، انخفاض الإيرادات بالدولار التي تجنيها مصر من قطاع الطاقة.
وفي خضم الهبوط في أسعار الطاقة، تعمد هذه الشركات أيضاً إلى كبح أنشطة التنقيب، ما يحدّ من الإنتاج المصري في المستقبل، ويحجب مبالغ قيّمة بالدولار عن السوق المحلية. بحسب إحصاءات وزارة التجارة والصناعة، تراجعت الصادرات المصرية من النفط الخام والبتروكيماويات بنسبة 33 في المئة، من 4.5 مليارات دولار بين يناير/ كانون الثاني وسبتمبر/أيلول 2014 إلى ثلاثة مليارات دولار في الفترة نفسها من العام 2015. لم تصدر أرقام حديثة بعد، لكن غالب الظن أن العائدات تتراجع بوتيرة أسرع نظراً إلى الانخفاض المتواصل في أسعار الطاقة.
في غضون ذلك، تنفق البلاد مبالغ أكبر على واردات الطاقة، إذ ارتفعت النفقات على الواردات المصرية من النفط الخام والبتروكيماويات من 6.3 مليارات دولار بين يناير وسبتمبر 2014 إلى 8.8 مليارات دولار في الفترة نفسها في العام 2015، لجملة أسباب منها تراجع الهبات والاعتمادات في قطاع الطاقة والمساعدات من الخليج.
ثانياً، يتسبّب تراجع أسعار النفط والغاز بانخفاض شديد في المساعدات من دول الخليج التي تشكّل شريان الحياة الاقتصادي الأساسي بالنسبة إلى مصر منذ الانقلاب العسكري في يوليو/ تموز 2013، على الرغم من أنه يُرجَّح وجود أسباب جيوسياسية أيضاً خلف تراجع المساعدات والاستثمارات السعودية والإماراتية في مصر، مثل موقف القاهرة الداعم لروسيا في سورية وتردد السلطات المصرية في إرسال قوات قتالية إلى اليمن، إلا أن الدولتَين الخليجيتَين لا تزالان تدعمان النظام العسكري في مسعى لكبح النفوذ الإيراني المتنامي في الشرق الأوسط.
لكن تعهداتهما تواجه قيوداً أكبر بسبب تراجع عائدات النفط والغاز، والتكاليف الباهظة للحرب في سورية واليمن. فقد ازداد عجز الموازنة السعودية من 2 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في العام 2014 إلى 15 في المئة في العام التالي، وتراجع احتياطي العملات الأجنبية من 737 مليار دولار إلى 640 مليار دولار. وهكذا، سجّلت المساعدات إلى مصر تراجعاً حاداً. في حين تُقدَّر المساعدات من الخليج والقروض المتساهلة التي أفادت منها الموازنة المالية المصرية في الفترة الممتدة من يوليو 2013 إلى يونيو/ حزيران 2014، بـ16.7 مليار دولار على الأقل، تراجعت هذه المساعدات إلى ما دون العشرة مليارات في المرحلة اللاحقة؛ والتعهدات الأخيرة ضئيلة بالمقارنة مع التعهدات السابقة، وينقصها جدول زمني واضح ومحدّد.
في فبراير/ شباط الماضي، رفضت السعودية مقترحات تقدّمت بها الحكومة المصرية لتنفيذ مشاريع كان من شأنها أن تجلب استثمارات سعودية إلى البلاد بقيمة 8 مليارات دولار. وعمد المتعهّدون الإماراتيون أيضاً إلى الحد من مشاركتهم في المشاريع التي أطلقها عبد الفتاح السيسي لبناء مساكن بأسعار مقبولة وإنشاء عاصمة إدارية جديدة. فالضغوط المالية التي يشعر بها هذان البلدان نتيجة انخفاض سعر برميل النفط إلى نحو 30 دولاراً سوف تدفع بهما إلى وقف أشكال المساعدة السابقة التي كانت أشبه بشيك على بياض، والاتجاه على الأرجح نحو الاستثمارات الانتهازية، مثل الاستثمار في قطاع العقارات المربح. في الحقيقة، لمّحت الرياض مؤخراً إلى أنها ستعمد إلى تقديم مزيد من المساعدات إلى مصر، لا سيما في قطاع الطاقة، لكن هذه المساعدات أقل سخاء بكثير بالمقارنة مع الأعوام السابقة. وقد حذّر أسامة كمال، وزير البترول سابقاً في مصر، من أن السعودية عاجزة عن الاستثمار في مصر في ظل أسعار النفط الحالية.
ثالثاً، فيما تواجه دول الخليج المنتجة للنفط تحدياتها الاقتصادية في الداخل، تراجعت التحويلات التي يرسلها المصريون العاملون في تلك البلدان إلى وطنهم الأم. ففي حين تلقّت المصارف المصرية تحويلات قدرها 22 مليار دولار في العام 2014، تراجع الرقم إلى 18 مليار دولار في العام 2015. يعود السبب في ذلك إلى الركود الذي تعاني منه اقتصادات الخليج وإجراءات التقشف المحدودة التي يجري اعتمادها، فضلاً عن التفاوت الكبير بين سعر الصرف الرسمي للجنيه المصري وسعر الصرف في السوق السوداء.
أخيراً، يتسبّب تراجع أسعار النفط بالحد من وصول مصر إلى العملات الأجنبية عن طريق قناة السويس. بحسب تقرير صادر عن SeaIntel، دفع تراجع أسعار النفط والمحروقات بعدد كبير من سفن الشحن البحري إلى سلوك الطريق الأطول حول رأس الرجاء الصالح تجنّباً للتعرفات المرتفعة الجديدة التي تُفرَض على السفن عند عبور قناة السويس. فبين تشرين الأول/أكتوبر 2015 ورأس السنة الجديدة، سلكت 115 سفينة الطريق الأطول، إنما الأقل كلفة في الوقت الحالي. الأسوأ أن التراجع العالمي في قطاع السلع الأساسية ناجم حتى الآن عن فائض العرض. إذا تراجع الطلب أيضاً بسبب التباطؤ في الاقتصاد الصيني أو المشكلات الائتمانية في الأسواق الناشئة، يمكن أن تخسر مصر مزيداً من الدولارات بسبب الانكماش في التجارة البحرية الدولية، ناهيك عن تراجع عائدات شحن النفط والغاز الطبيعي المسال.
تترتب عن أزمة العملات الأجنبية – التي يزيد من حدتها انخفاض أسعار الطاقة – تداعيات اجتماعية واقتصادية وسياسية وجيواستراتيجية واسعة النطاق بالنسبة إلى مصر. فعلى الصعيد الاقتصادي-الاجتماعي، تواجه مصر حاجة متزايدة إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي، بحيث لا يبقى أمامها من خيار سوى الشروع في تنفيذ مجموعة مؤلمة من الإصلاحات البنيوية، والإجراءات التقشفية، فضلاً عن خفض قيمة العملة، الأمر الذي سيلقي بتكاليف باهظة جداً على كاهل المستهلكين المصريين الذين يعانون أصلاً من الضغوط الشديدة. وغالب الظن أن مستوى التضخم الذي يبلغ حالياً نحو 10 في المئة، سيزداد فيما يتباطأ الاقتصاد وتصبح الوظائف أكثر ندرة. علاوةً على ذلك، تبيّن أن خفض الإنفاق العام عبر الحد من البيروقراطية المتضخّمة ليس بالمهمة السهلة، فالحكومة تواجه لوبي نافذاً من الموظفين الحكوميين الذين يتراوح عددهم – بحسب تقديرات متباينة صادرة عن الحكومة المصرية – من 5 إلى 7 ملايين شخص. على سبيل المثال، القانون الوحيد الذي أسقطه مجلس النواب وامتنع عن إقراره لدى قيامه في كانون الثاني/يناير الماضي بمراجعة مئات القوانين التي كان الرئيس السيسي قد أقرّها في العام 2015، هو قانون الخدمة المدنية الذي كان ليكبح إلى حد كبير التوظيف في القطاع العام ويجمّد الرواتب.
سوف تؤثّر أزمة العملات الحالية في المصريين من مختلف الأطياف. يُسجَّل نقص غير معهود في السلع الأساسية مثل الأرز وزيت الطعام والأدوية، وارتفاع في أسعارها. وقد عمدت بعض الشركات – مثل جنرال موتورز وإل جي وشركة الخطوط الجوية الفرنسية وشركة الخطوط الجوية البريطانية وشركة ايطالسيمينتي – إما إلى تعليق عملياتها مؤقتاً وإما إلى التفكير في الخروج نهائياً من السوق المصرية، بسبب عجزها عن ترحيل مكاسبها أو الوصول إلى الدولارات الضرورية للاستيراد. وقرار الحكومة الأخير زيادة التعرفات على مجموعة من المنتجات المستوردة للحد من الضغط على الجنيه المصري يسلّط الضوء على تأثير مشكلة الدولار على المصنّعين والمستوردين والعمّال والمستهلكين على السواء.
على الجبهة السياسية، يواجه الرئيس السيسي تحدياً متناقضاً في الظاهر يتمثل في إدارة الشؤون المالية للبلاد فيما يعمل في الوقت نفسه على إحباط مظاهر التململ العام وقمعها. نظراً إلى التراجع السريع في مستوى المعيشة واستحقاقات الرعاية الاجتماعية في مصر، قد ينطلق التعبير عن الغضب الشعبي من حرم النقابات المهنية والاتحادات العمالية وحتى من صفوف الموظفين الحكوميين. إذا تحدّت هذه المجموعات في العلن القوى الأمنية التابعة للنظام، قد تنضم إليها سريعاً كوكبة من المجموعات الأخرى والمواطنين العاديين. وقد بدأت مظاهر التحدي تظهر في النقابة العامة لأطباء مصر، وفي صفوف سائقي الحافلات في الإسكندرية، وسائقي سيارات الأجرة في القاهرة، والاتحادات العمالية في الإسكندرية ودلتا النيل. والانتقادات العامة للرئيس والحكومة التي كانت تُعَدّ من المحظورات منذ وصول السيسي إلى السلطة، أصبحت أمراً رائجاً عبر وسائل الإعلام التي تُعتبَر مقرّبة من مؤسسات الدولة. باختصار، وعلى ضوء التوقعات الاقتصادية، سوف تعاني مصر على الأرجح من اضطرابات سياسية واجتماعية تُبدّد الآمال بتحقيق الاستقرار السياسي وتعطّل أكثر فأكثر قدرة الحكومة على إحداث تحوّل جذري في الأوضاع الاقتصادية.