لقد بدأ ظهور دلمون، كهوية مستقلة منظمة، منذ قرابة العام 3000 ق. م.، حيث كانت سياسة سومر في هذه الحقبة تقتضي إعطاء حرية للجماعات العرقية لكي تنمو، وتكون لها ثقافتها الخاصة بها؛ وبذلك ساهمت هذه السياسة في انتشار عددٍ من الجماعات التي أصبحت لاحقاً أنويةً لثقافات قادرة على تكوين دويلات جديدة مستقلة.
وقد استمرت تلك السياسة ردحاً طويلاً من الزمن، وفي ظلّها كانت تلك الجماعات العرقية المتعايشة ضمن سومر وما حولها، تحافظ على استقلاليتها، وتظهر هويتها الخاصة بها، بل وتطوّر من تنظيمها، وفي نفس الوقت كانت تُبقي على علاقتها الدبلوماسية مع مراكز السلطة السياسية. وقد كانت دلمون إحدى تلك الجماعات العرقية، أو الكيانات السياسية التي ظهرت في سومر، وتطورت في ظل سياستها.
ومن خلال النقوشات الأولى التي ذكرت دلمون، بدت دلمون وكأنها كيان سياسي وثقافي مستقل، له تنظيمه الخاص، وأكبر دليل على ذلك هو العثور على نقوش توثق وجود «جامعي الضرائب» ومنها نقش يذكر «جامع ضرائب دلمون» الذي يعود لفترة الوركاء، مما يدل على أن دلمون كانت في تلك الحقبة كياناً سياسياً منظماً، ويرتبط بعلاقات اجتماعية واقتصادية مع سومر (Green 1984)، إلا أن هذا الكيان السياسي، لم يكوّن لنفسه دولةً بعد، لأنه خاضع لسيطرة السلطة المركزية لسومر التي تسيطر على جميع الجماعات العرقية والكيانات السياسية المتواجدة بها أو بالقرب منها.
ويبدو أن دلمون أخذت تتعاظم، ككيان سياسي، مع مرور الزمن، وبدأت تظهر فيها طبقات اجتماعية واضحة، شبيهة بتكوين الدولة، فقد ظهرت الملكية بها بصورة واضحة، وقد كان هذا التعاظم متوازياً مع تنامي نزعة السيطرة عند الكيانات السياسية المتعايشة.
الاستقلالية ونزعة السيطرة
من المميزات الأساسية التي كانت تميّز الكيانات السياسية التي كانت متعايشة ضمن سومر، أنها كانت متجانسةً عرقياً بدرجة كبيرة، ولها قيادات من نفس العرقية، ولم تكن جميع هذه الكيانات ذات نزعة سلمية، فمنها ما له طموحٌ في السيطرة السياسية. وكلما تعاظمت قوة تلك الكيانات ومدى تنظيمها، تعاظمت معها نزعة السيطرة. وفي ما يخض دلمون، يبدو أنه بعد العام 2400 ق. م. وصلت دلمون إلى درجات متقدمة من التنظيم، حتى أصبحت شبه دويلة، لها سلطة مركزية مميزة؛ فمن النصوص المهمة التي عثر عليها في وادي الرافدين، والذي رجح أنه يعود للفترة ما بين 2370 – 2350 ق. م.، يذكر فيه ملكة دلمون، والتي قدمت مجموعة من الهدايا إلى ملكة لجش (Marchesi 2011).
ومن المرجح أن دلمون في هذه الحقبة تكوّنت في منطقة ما على سواحل الخليج العربي، ربما البحرين، أو شرق الجزيرة العربية. ولا يوجد ما يدل على أن دلمون كانت لها نزعة للسيطرة، إلا أنها بلا شك كانت تسعى للاستقلال الكامل، وربما كانت تنتظر الفرصة المواتية لذلك؛ فلم تكن الكيانات السياسية الأخرى تخلو من نزعات التمرد والسيطرة. وربما كانت هناك ثورات عديدة حدثت في سومر رغبةً في السيطرة عليها، إلا أن التاريخ لم يسجّل إلا ثورة واحدة نجحت في الإطاحة بسومر، وهي ثورة سرجون الأكدي (2340 – 2280 ق. م.) الذي استطاع أن يسيطر على سومر، وأن يغيّر من النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي فيها (Heinz 2007).
تأسيس دولة دلمون
لقد بدأ تأسيس دولة دلمون في البحرين، بالتزامن مع ثورة سرجون الأكدي، أو بعدها بقليل؛ حيث ازدادت أعداد المهاجرين أو الهاربين من سومر واستقرارهم على سواحل الخليج العربي، ومنها البحرين، مما أدى لظهور التكوينات القبلية أو الدولة البدائية، أي الطور الأول لتكوين الدولة في هذه المناطق (Hojland 1993). والمرجح أن البدايات الأولى لدولة دلمون نشأت في البحرين. وقد كانت «دولة دلمون» في بداية حقبة التأسيس تتكون من مجموعة بسيطة من الأفراد، الذين قاموا ببناء بيوت صغيرة متجاورة، وليس لها سور يجمعها، وذلك في موقع قلعة البحرين في قرابة العام 2300 ق. م.
هذه المجموعة لم تكن حينها قادرةً على تصنيع كل أدواتها ومستلزماتها، فقد اكتفت بتصنيع فخار بسيط خاص بها، وقامت بتعويض النقص عن طريق استيراد فخار خاص وبضائع أخرى من حضارة أم النار في الإمارات، وحضارة وادي الرافدين، وحضارة وادي السند. وقد كان كل أنواع الفخار (المستورد والمحلي) يستخدم في نفس الزمان بل في نفس المكان (Hojland 1993) و (Laursen 2009) و (Laursen 2011).
هذا، وتعتبر دلمون التي تأسست في البحرين، هي في واقع الأمر، عملية استنساخ للجنوب الرافدي، ليس في الهوية والشكل، وإنّما في الموقع التجاري كوسيط ومنطقة «عبور» تجارية. هذه الصورة لم تكن واضحةً في حقبة تأسيس دلمون ولكن في طور النضج أصبحت دلمون – البحرين القوة التجارية الرئيسية في الخليج العربي (Olijdam 2000). ولكن كيف تحقق لها ذلك وهي تفتقد للعديد من المقومات التي تؤهلها لذلك؟ حيث أن عظمة الحضارة تقاس بحسب توافر الموارد الطبيعية وكيفية استغلالها مع وجود التنظيم الاجتماعي ومدى تعقيده وتوحده تحت قيادة مركزية واحدة، وبوجود نظام اقتصادي واضح له نظام إداري وأدوات معينة كالأختام والأوزان والمعايير الأخرى المختلفة.
وبالتدقيق في الحقبة التي تأسست فيها دلمون في البحرين، لا نجد أياً من المقومات السابقة فيها. لقد كانت دلمون عبارةً عن قرية صغيرة تتكون من بيوت صغيرة متجاورة بنيت في موقع قلعة البحرين، ولا يمكن أن نقارن مساحتها بمساحة الجنوب الرافدي، أو أن نقارنها بمساحة وأهمية حضارة أم النار (في الإمارات العربية وسلطنة عمان)، والتي كانت تتميز بوجود مناجم النحاس، وكانت تتميز أيضاً بمساحتها وطول سواحلها، وقربها من حضارة وادي السند، وعلاقاتها التجارية بين وادي السند والحضارات الأخرى المختلفة التي قامت في إيران. أضف إلى ذلك أن حقبة أم النار (2700 ق. م – 2000 ق. م.) تميّزت بثقافة واضحة ذات هوية مميزة، وقد اعتبرت ثقافة «أم النار» من أولى الثقافات التي نشأت على ساحل الخليج العربي والتي أسست لنفسها ثقافة خاصة بها تميّزت بنوع الفخار وطريقة البناء وطقوس الدفن وبناء القبور (Potts 2005).
الثنائي دلمون وأم النار
منذ أن تأسست دلمون، نشأت بينها وبين حضارة أم النار (2700 ق. م – 2000 ق. م.) علاقات تجارية وطيدة وبالخصوص في تجارة النحاس. وبدأت علاقات دلمون التجارية تتوسّع، شيئاَ فشيئاَ، ولكن على حساب حضارة أم النار التي بدأت تضعف حتى تلاشت قرابة العام 2000 ق. م (Laursen 2009).
أما دلمون فقد استحوذت على تجارة النحاس، وفي قرابة العام 2050 ق. م. ظهرت أختام دلمون وأوزان دلمون، وبدأت دلمون تتحوّل إلى نسخة مطابقة لما كان عليه الجنوب الرافدي، ليس في الهوية والشكل، وإنّما في الموقع التجاري كوسيط ومنطقة «عبور» تجارية. هذه الصورة لم تكن واضحة في حقبة تأسيس دلمون ولكن في طور النضج أصبحت دلمون القوة التجارية الرئيسية في الخليج العربي (Olijdam 2000). وبدأت دلمون بالتوسع فشملت شرق الجزيرة العربية وجزيرة فيلكا. أما في البحرين فقد توسّع الاستيطان وظهرت مدن وقرى دلمونية جديدة، بالإضافة إلى ظهور حقول تلال القبور في الجزء الجنوبي من البحرين. وبين تاريخ تأسيس دولة دلمون وتاريخ توسعها، توجد العديد من التفاصيل التي سوف نتطرق لها في الحلقات القادمة.