شدد خبير الآثار العراقي قصي التركي، على حاجة البحرينيين اليوم، لثورة ثقافية وحضارية، تخص حضارة دلمون وتاريخ مملكة البحرين القديم، معبراً في الوقت نفسه عن انبهاره بتفرد الدلمونيين بالتعايش والنزعة السلمية وبناء الحضارة الموازية لحضارتي مصر والعراق.
وقال، في حوار لـ «الوسط»، على هامش زيارته الأولى لمملكة البحرين: «زرت متحف البحرين الوطني، الذي بدا رائعاً في عرضه وفي قاعاته، لكني تفاجأت بأن 70 في المئة من معروضاته تخص التراث الشعبي والحقبة الإسلامية، والمعادلة بهذه التركيبة مقلوبة، حيث منحت التاريخ القديم للبحرين 30 في المئة وربما أقل، والكتابات المسمارية نصيبها 2 في المئة».
وكشف التركي الذي يشغل منصب أستاذ حضارة الشرق القديم واللغات العراقية القديمة، عن أخطاء بحق تاريخ البحرين، أوضحها بالقول: «شاهدت رسماً في المتحف معروضاً بالعكس، فالخط المسماري يأتي على هيئة 4 أشكال، والمعروض مكتوب من قبل خطاط بشكل لا يمت لهذه الأشكال بصلة، كذلك تفاجأت بوجود رقم طينية معروضة في المتحف، لم تقرأ بعد»، معبراً عن استعداده لأخذ صور من النصوص المسمارية التي يتراوح عددها الآن من 200 إلى 300 لوح مكتشف، والموجودة بحوزة إدارة الآثار، وذلك من أجل دراستها وترجمتها وتقديمها لمملكة البحرين. وخلص التركي إلى رسم خارطة طريق تسهم في حماية وتوثيق التاريخ القديم لمملكة البحرين، تصدر ذلك دعوته لإنشاء أقسام للآثار في جامعة البحرين والجامعات الخاصة، وتساءل: «هل من المعقول أن يكون هذا حال حضارة توازي حضارة بلاد الرافدين وحضارة وادي النيل؟».
وفيما يلي نص الحوار:
هل هي الزيارة الأولى لك للبحرين؟
- نعم، وقد عمقت من قناعتي بالحاجة للمزيد من التوثيق الأكاديمي لتاريخ هذه الأرض التي أنا على معرفة بتاريخها تحديداً القديم منه.
أشير هنا إلى أن دلمون، كانت أقوى مملكة في منطقة الشرق الأدنى وخصوصاً في غرب آسيا، ولا توازيها إلا ممالك جنوب بلاد الرافدين في الألف الثالث قبل الميلاد، ونعني ممالك بلاد سومر.
السومريون في بلاد الرافدين أسسوا ممالك مستقلة لا يمكن أن ترقى لمملكة دلمون، وعندما جاء الجزريون (الأكديون)، وحدوا بلاد الرافدين بممالكها السومرية فأصبحوا دولة وإمبراطورية قوية، في الوقت الذي بقت فيه البحرين مملكة في منطقة الخليج واستمر عطاؤها الحضاري والثقافي يشع على كل منطقة الخليج ومنطقة الشرق الأدنى بشكل عام، وذلك باتصالاتها مع «الأموريين» في سورية، ومع حضارة وادي السند، ومع «عيلام»، مشكلة بذلك محور فلك حضاري.
وشخصياً أكرر هذه العبارة باستمرار: لا يوجد إنسان في الشرق وخاصة في الخليج والعراق، لا يدين للبحرين بشيء مثلما يدين الإنسان القديم لحضارة دلمون التي وضعت اللبنات الأولى لقيم الحضارة ووضعت الأسس الأولى للتجارة والتبادل التجاري، والأهم من ذلك وضعوا الأسس الأولى للتعايش السلمي.
الواضح أن الحديث بشأن حضارة دلمون التي مضت عليها أكثر من 5 آلاف سنة، لايزال بحاجة للكثير والكثير...
- نعم، وأنا رجل أكاديمي مهمتي هي النقد البناء، وحين تسألني عمّا رأيت في مملكة البحرين، فإني أشير إلى الإغفال الكبير من قبل الإخوة في البحرين للجانب الذي يتعلق بتاريخ البحرين القديم، وعندما أقلب صفحات الإنترنت أو الكتب، لا أجد متخصصاً في تاريخ البحرين القديم إلا الزميل عبدالعزيز صويلح، الذي كتب وألف ونشر، وأغنى بذلك تاريخ البحرين بكتاباته ولكن كان ينقص ذلك التوثيق، فحين أتحدث لك عن شيء يبهرك من دون تقديم الوثيقة التي تدلل على ذلك فلن أتحصل على القناعة التامة لديك، وصويلح يتحدث عن البحرين بموجب المصادر المدونة والمنشورة وخاصة باللغات الأجنبية لكن ينقصه التدوين باللغات القديمة، بلغة من كتب في عصره حضارة البحرين القديمة، بلغة دلمون وبخط الدلمونيين، ونعني به الخط المسماري.
وفي زيارة لي لمتحف البحرين الوطني قبل أيام، تفاجأت بوجود رقم طينية معروضة في المتحف، وتعني الرقم، الكتابة المسمارية، والمفاجأة أنها لم تقرأ بعد ولم يعرف محتواها، وعن أي شيء تتحدث.
تقول إن الكتابة على الرقم الطينية لم تقرأ بعد؟
- الكتابة لها متخصصون في قراءة الكتابة المسمارية وترجمتها للغاتها الخمس الميتة، نتحدث عن اللغة السومرية، والأكدية، والآشورية، والبابلية، والعيلامية. ومع الأسف فإن قراءة ما كتبه لنا الإنسان البحريني القديم لايزال قليلاً ولم يحظَ بالتركيز الشامل من قبل الإخوة المتخصصين في الآثار في مملكة البحرين وهذا ما لمسته عبر زيارتي الأولى، وأتمنى مستقبلاً أن تتاح الفرصة لفتح مراكز دراسات وأبحاث تتعلق بتاريخ البحرين القديم.
هل تعني أن تاريخ البحرين القديم، تحديداً دلمون، لايزال مجهولاً بنسبة كبيرة؟
- مع الأسف هذا الأمر صحيح، وقد لمست هذا الشيء، لذلك نحن ندعو للاهتمام بمستوى أرفع، والتركيز على تاريخ دلمون القديم، ونعني بذلك فترتي الألف الثالث والألف الرابع قبل الميلاد.
وحين نتحدث عن التاريخ القديم فلن نجد مثيلاً لمملكة البحرين في القديم، فنحن لدينا 4 مراكز حضارات في التاريخ القديم، حكمت 3 آلاف سنة. في أقصى الغرب حضارة بلاد وادي النيل، وهي تعتمد على نهر النيل، وحين نقترب سنجد حضارة بلاد الرافدين وتعتمد على نهري دجلة والفرات، ثم نهبط قليلاً لنجد مملكة البحرين (دلمون القديمة)، ونبتعد لجنوب غرب آسيا لنجد حضارة وادي السند، وهي تعتمد على نهر السند.
الآن لنتمعن في الفكرة وفي كيفية صنع الإنسان الدلموني حضارته. الحضارات الثلاث المذكورة اعتمدت على الأنهر لديها ووجود حضارة في بلد يحوي نهراً يبدو منطقياً، لكننا نتساءل عن موقع الإبداع وسط كل هذه الحضارات، والإجابة ستقودنا لدلمون، التي لا تحوي أي أنهار، ولديها عيون وماء، فوازت على رغم ذلك حضارة مصر والعراق والسند، بالاعتماد على ينابيع ماء بسيطة، والسؤال: كيف لحضارة ومجتمع وسكّان عاشوا في بقعة في وسط الماء المالح وبهذا الإشعاع الحضاري الذي انتشر على كل المنطقة؟، هذا يؤكد أن لحضارة دلمون خصوصيات كثيرة لم يركز عليها الباحثون.
ما هي هذه الخصوصيات؟
- على سبيل المثال، تفردت حضارة دلمون بصناعة أول وأقدم الأوزان، وهناك وزن خاص. وفي الزمن القديم كان وزن دلمون هو الوزن الذي يتعامل به في العالم، بموازاة وزن أور، وزن عاصمة بلاد الرافدين، وكانا ورنين متقاربين. نتحدث هنا عن ثقل لم يسلط عليه الضوء.
بجانب ذلك، فإن حضارة البحرين قديمة تميزت بنوع من الفن والذي هو يعرف بـ «الختم»، مشتملاً على التوثيق والتدقيق على عائد الأملاك، فحضارة البحرين القديمة تفردت بصناعة أختام تختلف عن كل الأختام التي وجدت في الأماكن الحضارية المجاورة.
الإعلام كان منصباً على حضارتين فقط، وهما حضارة بلاد الرافدين وحضارة وادي النيل، مع العلم أن هذه الأخيرة هي حضارة حجر، والحجر متوافر الذي بنيت منه الأهرام، أما الدلمونيون فبنوا حضارتهم من ماذا؟ لم يكن لديهم سوى سعف النخيل والطين، وعلى رغم ذلك كونوا هذه الحضارة العريقة.
عطفاً على ذلك، هل يمكن القول إن حضارة دلمون تناطح الحضارتين في مصر والعراق؟
- بالضبط، لكنها لم تأخذ نصيبها من العلم والإعلام، ومن اهتمام الباحثين التاريخيين.
وحين زرت البحرين وتحدثت مع الزملاء، أقول إننا بحاجة لثورة ثقافية وحضارية، تخص دلمون وحضارة مملكة البحرين.
إذاً أنت تعتقد أن البحرينيين بحاجة لاستفاقة من سباتهم؟
- بالفعل، وراية التغيير يجب أن يمسك بها البحرينيون أنفسهم، ونحن كمتخصصين في الكتابات المسمارية مستعدون لمد يد العون، لأننا نعتقد أن ذلك هو جزء من تاريخنا وهويتنا.
بلا شك أن في جعبتك خارطة طريق تعقب ما تنادي به من ثورة ثقافية وحضارية.
- الخطوة الأولى تبدأ بالاهتمام بالمختصين الذين تتلمذوا وتكونوا بموجب الحفاظ على تاريخ دلمون القديم، وهناك أسماء معدودة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، في مملكة البحرين، وهؤلاء يجب أن نستثمر السنوات المتبقية من أعمارهم.
هنا أسجل تفاجئي بعدم وجود قسم للآثار في جامعات مملكة البحرين، فهل من المعقول أن يكون هذا حال حضارة توازي حضارة بلاد الرافدين، مع العلم أن هذه الأخيرة تشتمل على 6 جامعات تتضمن كليات للآثار.
ولذلك أقول إن بداية خارطة الطريق تأتي عبر التأسيس الأكاديمي الصحيح، فمن خلال قراءتي لكتابات البحرينيين أجدها تعبر عن خواطر وأمنيات أكثر من كونها كتابات أكاديمية، تضمن لنا الحصول على المعلومات الدقيقة، وأنا عبر «الوسط»، أوصل صوتي للمسئولين هنا بضرورة فتح قسم للآثار يعني بتاريخ البحرين القديم.
أهمية ذلك تأتي من خلال ارتباطه بقدرة البحريني على الانطلاق متكئاً على تاريخ أجداده الممتد حتى 6 آلاف سنة، وهنا أنوه إلى أن النظريات التاريخية المتعلقة بالأنثروبولوجيا وبالسيسولوجيا والتاريخ الاجتماعي تقول إن الصفات المكتسبة من المجتمع بمرور الزمن تصبح وراثية، أي أن من أجداده علماء وباحثين وكتاب ومفكرين كما هو الحال مع حضارة دلمون القديمة، فإن أحفاده سيتلقفون هذا الذكاء عبر الجينات والعوامل الوراثية، وهذه نظرية أثبتها علماء النفس.
فإذا عرف البحرينيون أنهم يمتلكون كل هذا الإرث الحضاري العريق، من الاكتشافات والاختراعات والتعامل التجاري، فمن الضروري أن ينعكس ذلك على الشباب البحريني اليوم من أحفاد الدلمونيين.
فيما يتعلق بزيارتك لمتحف البحرين الوطني، أشرت للحاجة لبعض التصحيح، فما هي بقية انطباعاتك حول المكان؟
- لا أنكر أن المتحف كان رائع جداً، في عرضه وفي قاعاته، لكن أرجع لأقول إن 70 في المئة من معروضات المتحف تخص التراث الشعبي والحقبة الإسلامية، والمعادلة بهذه التركيبة مقلوبة، حيث منحت التاريخ القديم للبحري 30 في المئة وربما أقل، والكتابات المسمارية نصيبها 2 في المئة، بل إنني شاهدت رسماً في المتحف معروضاً بالعكس، فالخط المسماري يأتي على هيئة 4 أشكال، والمعروض مكتوب من قبل خطاط بشكل لا يمت لهذه الأشكال بصلة.
هذا يعزز من الحاجة لمختصين في التدريب على كيفية الكتابة وبدايتها، ومعانيها، ثم نطلب من المتحف ما عثرت عليه بعثات التنقيب التي تعاقبت على البحرين خلال العقود الفائتة، من نصوص، وذلك من أجل دراستها، وشخصياً أعلن عن استعدادي لأخذ صور من هذه النصوص التي يتراوح عددها الآن من 200 إلى 300 لوح مكتشف، وذلك من أجل دراستها وترجمتها وأقدمها هدية لمملكة البحرين.
كذلك أشير إلى أنني وخلال زيارتي لمتحف البحرين وجدت في أحد المنشورات عبارة كتبت خطأً وذلك بسبب لفظ الأجنبي، فالمعروف عن مملكة البحرين القديمة في الأساطير أن هنالك إلهاً هو الذي أعطى قيمة وأهمية لدلمون لأنها مقدسة، وهذا الإله اسمه «إنكي»، وتعني سيد الأرض أو سيد المعرفة، له زوجة اسمها «ننخرساخ»، وما رأيته مكتوباً على أحد الملصقات في متحف البحرين «ننخرساه»، وأتمنى أن تزال وبسرعة، وسبب هذا الخطأ أن من كتب ذلك لم يكن متخصصاً ونقل حرف (H) على أنه (هاء)، وهذا التغيير يغير من المعنى وهنا تكمن خطورة ذلك، فإذا كنت أقرأ الكتابات المسمارية بالحرف العربي فسأصل للمعنى نفسه.
هل تعتقد أن فك كتابة هذه النصوص سيغير الكثير مما هو معروف عن تاريخ مملكة البحرين؟
- نعم، حيث سيضيف على ما نعرفه، كما سيؤكد ما هو متداول ومنشور، وذلك بالاعتماد على منطق الدليل المادي (الوثيقة)، بما يسهم في إعادة توظيفها في كتابة تاريخ البحرين خصوصاً.
سنسأل هنا: هل زرت مواقع أثرية في البحرين؟
- نعم، من بينها قرية عالي، حيث تلال المدافن، وقد وقفت على التجاوزات بحقها، الأمر الذي يدفعني للقول إن الجانب الأهلي يتحمل مسئولية حين تعمل الجهات الرسمية والإعلامية على تنويره، وهذا لا يعني عدم الإشارة إلى الحاجة للوعي الذاتي والانتماء للأرض لدى المواطن البحريني.
في كل حرف تنطقه، يتجلى شعور الانبهار بحضارة دلمون، فكيف يمكن إيصال هذا الشعور لمن لم يصل إليه من البحرينيين؟
- أقول للبحريني أنت كبير، ليس فيما تحمل في جيبك من أموال، بل بما تحمل من إرث حضاري تفتقر إليه مجتمعات أخرى، وعليك الاعتزاز بهذا الإرث الذي هو أساس وحدتكم وأساس تعايشكم وتسامحكم، وذلك من خلال عودتكم للأصول.
وفي التاريخ وخاصة في الكتابات المسمارية، أكاد أجزم أن الشعب الوحيد في العالم الذي يشعر بالتعايش والتفاهم وبسلمية التعامل، هو شعب مملكة دلمون القديمة، فعلى مدى التاريخ القديم قرأنا في النصوص المسمارية وغيرها من الوثائق، أن هنالك معارك وحروباً من أجل الحصول على مكسب، عدا مجتمع مملكة دلمون الذي كان يمتاز بقمة التعايش، والإنسان البحريني من خلال هذا التعايش والسلمية ذواق للفن والجمال والزينة، فالبحرين من حيث الجغرافيا هي الوحيدة في العالم التي احتوت حضارتين ممتزجتين، حضارة الماء (البحر)، وحضارة البر (الواحات التي على الساحل الغربي للخليج العربي).
ضدهم
لاتقول أحفادهم بحاجة لثورة تنقذ تاريخهم القديم لايودونك ابو زعبل وش فيك ؟؟؟؟ اششششش
كل المحبة والتقدير، للإنسان الراقي والمخلص أ. قصي التركي.
لإرجاعه المنطق البنيانثرلوجي (إن صح التعبير) على عقبية مرةً أُخرى، ولتصديه لمهمة تاريخية وهي ترجمة وإعادة توثيق تاريخنا الحبيب. لنتمكن من الإرتباط به بحتميته الواسعة، المتنوعة، الممتد، العميقة! فبعد كل الويلات المتعاقبة للغزو! والطمس! والتفريق! والتجهيل! لم يتبقى منه إلا القيم الاخلاقية والحب الغير مشروط لهذه الأرض ومن عليها. وتتجلى هذه السمات بشكلها الفاقع في اللاوعي الجمعي للشعب «الدلموني الحديث» ترابطاً وإرتباطاً في الأرض وبالجغرافيا.