حتى اللحظة ولسنوات مقبلة، سيبقى في ذهن الكثير من النخب العربية أن الربيع العربي كان مؤامرة كونية ضد العرب، لكن قلما يسأل السؤال: ما الذي أدى بكتل شعبية عربية كبيرة مكونة أساسًا من الشباب تلبية نداء الخروج للشوارع؟ أزعم أنه طالما لم يعم الوعي بخصوص العوامل الداخلية الاقتصادية والسياسية، بل والاجتماعية المؤدية إلى ثورات الربيع العربي من شاكلة تضاعف أعداد السكان غير المسبوق في التاريخ العربي، وتغول الأمن وتراجع العدالة الاقتصادية والحقوقية وزيادة المركزية الرسمية وفرديتها وانتشار الفساد والامتيازات لدى النخب، فالربيع العربي كما عرفناه سيعود ثانية بعد زمن.
إن السعي الرسمي في السنوات القليلة الماضية نحو سياسات ديدنها الأساسي الأمن والجيش والبيروقراطية الضخمة والسيطرة المركزية لن ينجح، وذلك بسبب تجاوز المجتمعات فكرة الدولة التي لا مكان للشعب في قاموسها.
هذا الوضع يرشح النظام العربي للمزيد من عدم الاستقرار، فالضغوط السكانية والشعبية ستستمر على البيروقراطيات الحكومية المشلولة. وهذا يعني الحاجة إلى دول عربية أقل تدخلا في الاقتصاد والحياة والمجتمع. هذا الحراك لن يتوقف (حتى لو بدا أنه قد هدأ) طالما أن الدولة تسيطر على المجتمع وتفتته قبليا وعشائريا ودينيا وطائفيا في ظل تضخم الامتيازات الفئوية للأقلية... أكانت عسكرية أم مدنية، ففي ظروف كهذه سيعاد إنتاج الشعور بالظلم والحاجة إلى الهجرة واللجوء، وستنتشر الحروب والنزاعات والتطرف والإرهاب. الدولة الفاشلة التي نرى تعبيراتها في أكثرمن 60 في المئة من الدول العربية هي نتاج عملية تاريخية ازدادت كثافتها في السنوات القليلة الماضية.
النخب العربية الرسمية التي تعي حجم أزمة الدولة وجدت الحل - حتى الآن - (في ظل ظروف التراجع النفطي) من خلال أطروحات بيع القطاع العام إلى الخاص، وهذا يعني عمليًّا (في ظل غياب الحريات والشفافية والبيئة التنافسية والعدالة وفصل السلطات) بيع القطاع العام لمصالح ضيقة، ولمنظومة مرتبطة بالنظام السياسي، وهذا بدوره سيشعر كتلاً شعبية كبيرة بأنها تدفع ثمن الغلاء، وارتفاع تكاليف المعيشة والتضخم، وهبوط أسعار النفط وتردي التعليم والعلاج وتعثر الاقتصاد. السياسات التقشفية التي ستطرحها دول عربية قلما تتعامل مع الرأسمالية بصفتها نتاج عملية تنافسية في المجتمع (تتطور خارج نطاق الحكومة والنظام السياسي) في ظل نظام ضرائبي تصاعدي وحالة عدالة وفصل سلطات متفق عليها مجتمعيًّا. إن محاولة نقل سياسات ثاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، ليست الحل، (وان كانت الفلسفة صائبة) فتلك السياسات وقعت في بريطانيا حيث تسود دولة القوانين الراسخة وحيث المنافسة تسمح بالارتقاء، وحيث المجتمع في مقدمة العملية السياسية، أما في بلادنا فتتغير القوانين بين يوم وليلة، وهي خاضعة للمصالح والنفوذ والامتيازات. إن تطبيق إصلاحات مشوهة قلما تتعامل مع عمق المشكلة العربية ستكون من أسباب عودة الربيع العربي بعد زمن.
وبامكان النظام العربي أن يمارس سياسة مختلفة، فيحسن البيئة القانونية ويبني أجواء تحترم الحريات والرأي المستقل ثم يسعى نحو الشفافية والتنافس الحقيقي والديمقراطية. هذا يتطلب تنفيذ استراتيجية تخفف، على مراحل، من حجم الدولة في ظل التخلص من الفساد، بما يسهم في تمتين المجتمع وإطلاق المبادرة الخاصة ومبادرات الشباب. هذا يتطلب قبل كل شيء سياسة أكثر تركيزا على حوار مجتمعي واسع النطاق تشارك فيه جميع القوى الفاعلة أكانت في السجون العربية أم خارجها أم في المنافي أم في الحكم. الأوطان بحاجة إلى المجتمعات، وبلا المجتمعات وممثليها ستستمر الدولة الفاشلة بالزحف على أغلب الأمكنة العربية. الربيع العربي الذي عبر عن نفسه في 2010 ثم 2011 مثل مدرسة جديدة في منطقتنا في التغير السلمي، لكن في المرة القادمة، وخاصة إن لم تنجح الأنظمة في قيادة إصلاح متشعب غير مسبوق، ستكون الشعوب قد اكتسبت درجة أوضح من الخبرة والمعرفة والنضج.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 4948 - الخميس 24 مارس 2016م الموافق 15 جمادى الآخرة 1437هـ
الربيع العربي كما عرفناه سيعود ثانية بعد زمن.
أزعم أنه طالما لم يعم الوعي بخصوص العوامل الداخلية الاقتصادية والسياسية، بل والاجتماعية المؤدية إلى ثورات الربيع العربي من شاكلة تضاعف أعداد السكان غير المسبوق في التاريخ العربي، وتغول الأمن وتراجع العدالة الاقتصادية والحقوقية وزيادة المركزية الرسمية وفرديتها وانتشار الفساد والامتيازات لدى النخب، فالربيع العربي كما عرفناه سيعود ثانية بعد زمن.
متي كانت هناك دوله بالمعني المتفق عليه أي دولة القانون والمؤسسات في أي جزء من ... انظرو جيدا وسترون بأن كل الكيانات تعطي الانطباع بأنها مؤقته اللهم الا القليل منها .