من مفارقات الزمن الرديء الذي يعيشه العالم الآن أن تطرح أوروبا على نفسها أسئلة تشكّك في كل ما نادت به فترة «الأنوار» الأوروبية من قيم ومسلمات ظنت أن نشرها سينقل البشرية من حالات التوحش والبدائية والتخلف إلى حالات التمدن والرقي الحضاري.
وإلا كيف نفسر موجة «النهايات» و»البعديات» التي اجتاحت الساحات الفكرية والسياسية والاقتصادية الأوروبية بين عام 1990 – 2002، بدءاً «بنهاية الإيديولوجيا»، مروراً «بنهاية الجغرافيا»، تتبعها «نهاية التاريخ»، و»نهاية اليوتوبيا»، إنتقالاً إلى «ما بعد الماركسية» و»ما بعد الرأسمالية»، وانتهاء بالإعلان عن نهاية الحداثة والانتقال «لما بعد الحداثة»؟
كل عنوان من تلك العناوين الصاخبة المتحدية كان عنواناً لكتاب أو أكثر، كتبه مفكر أو عالم مشهور غير متهور. كل كتاب أثار الكثير من الجدل والضجيج، إذ أنه يعلن بصورة مباشرة أو غير مباشرة، تعثر أو إفلاس هذا الشعار الأنواري الحداثي أو ذاك.
لم تصل تلك الموجة إلى نهايتها بعد، إذ صدرت مؤخراً كتابات كثيرة تنتقد بمرارة الصورة الجديدة للرأسمالية النيوليبرالية العولمية التي لا تعترف إلا بمتطلبات وقيم وقوانين السوق المتنافس الإستهلاكي النهم الذي يسلع ويسطح ويبيع ويشتري الفن والثقافة، بل والإنسان. كما صدرت كتابات تنتقد بمرارة وخيبة أمل، النواقص الكثيرة في النظام الديمقراطي الليبرالي الغربي، أي النظام الذي اعتبره الكثيرون الملاذ الأخير للإنسانية في وجه الظلم والتسلط والفساد واللامساواة.
في هذه اللحظة، في فرنسا، أحد أهم منابع نهر الأنوار الأوروبي المتدفق منذ ثلاثة قرون، هناك نقاشات تعبّر عن قلق عميق حول ما وصلت إليه موجات «الأنوار» و»الحداثة». بعضهم يقول بأن فرنسا، وبالمثل أوروبا، تعيشان نقيض عصر الأنوار: إذ تشابكت واختلطت واختفت الفروق بين تيارات اليسار السياسي مع اليمين السياسي، والشعارات الفاشستية مع الشعارات الديمقراطية؛ وإذ تتصارع المساواة السياسية مع المساواة الاقتصادية والاجتماعية في حرب عبثية؛ وإذ تترنح القيم الثورية الإنسانية التاريخية، وتسود اللاعقلانية على كل محاولات العقلانية، خصوصاً بين الجماهير الهائمة على وجهها.
ما الذي حدث؟ الذي حدث هو أن الغرب تعايش مع حقارات الاستعمار، ومع شن حربين عالميتين فاجرتين، ومع تدخلات عسكرية انتهازية في طول وعرض المعمورة، ومع تعايش أناني مع كل نظام سلطوي فاسد مرتهن لنزواته، ومع نظام سياسي واقتصادي عولمي يفقر الفقراء ويدمّر البيئة والطبيعة وكل جمالات الحياة، ومع إحلال الأنظمة والسلطات الاستخباراتية في صدارة الحياة السياسية والثقافية والإعلامية، ومع حكم البلدان من قبل الشركات الكبرى ومؤسسات المال، ومع تهميش أدوار المفكرين والمثقفين.
ترى لو أرجعنا البصر إلى الأرض العربية، ألن نرى بوادر السير في نفس طريق «النهايات» و»الما بعديات» لعقائد وشعارات ووقائع عملت الأمة العربية عبر القرون للوصول إليها، وظنّ العربي أنها أصبحت من المسلمات في حياته؟
الآن والعديد من الأقطار العربية في طريقها نحو التجزئة والتفتت، بسبب الصراعات المجنونة المفجعة بين مكوّناتها والاستباحة التامة لها من قبل قوى الخارج المتآمرة على وحدتها القومية ونهوضها... الآن والعديد من الأقطار العربية الأخرى تتهيأ وتهيّئ للدخول في نفس النفق المظلم، هل سنرى البعض يعلن نهاية الدولة الوطنية العربية بعد أن أعلن البعض سابقاً نهاية شعار الدولة القومية العربية الموحدة؟
هل سندخل عصر النقاش حول طبيعة «ما بعد الدولة الوطنية القُطرية»، وهل ستكون مبنيةً على أسس قبلية أم أسس مذهبية طائفية أم أسس عرقية لغوية؟
الآن والجنون التكفيري الجهادي الإسلامي العنفي البربري يجتاح طول وعرض بلاد العرب وبلدان المسلمين، هل سنتكلم عن «نهاية الإسلام المحمدي»، إسلام العقيدة الواحدة القائمة على أسس الحق والعدالة والقسط والتسامح والتراحم وحرية الإنسان في عقيدته وإيمانه والإعتراف بأديان الآخرين؟
هل سنعلن مجيء رسالات «ما بعد الرسالة المحمدية» على يد معتوهين، ولكن بأتباع ومناصرين كثيرين، يطرحون أنفسهم لا كخلفاء سياسيين وإنما كخلفاء دينيين أيضاً، لهم الحق وواجب الطاعة في أن يقرأوا القرآن ويفهموا أقوال نبي الإسلام بصورٍ لا تقرّها عدالة السماء ولا عدالة الأرض؟ هل سنتكلم عن إسلام ما قبل «القاعدة» وفراخها وما بعدها؟
هل سنتكلم عن نهاية شعارات الوحدة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية الإنسانية والتجدد الثقافي، التي استنفدت طاقات أجيال من الإصلاحيين والمفكرين والقادة المناضلين، لتحل محلها شعارات متخلفة ظالمة متسلطة من مثل سبي النساء، وذبح أصحاب الديانات السماوية الأخرى، وإنهاء كل مظاهر الثقافة والفنون الرفيعة، وخنق الحريات الفكرية والسياسية، وإيقاف الانتقال إلى الديمقراطية، ورفض كل منجزات العصر الفكرية والعلمية والإبداعية، وإيقاف التاريخ لإرجاعه إلى الوراء عشرات القرون، والدخول في معارك صبيانية مع كل الأمم، بل والوصول إلى الادعاء بمعرفة الطريق الأوحد إلى دخول جنة الله سبحانه وتعالى؟
هل نحن نتخيّل أشياء لن تحدث بطرح أسئلة غير واقعية؟ أبداً، إذ من كان يصدق أن ثلاثة قرون من «الأنوار» الأوروبية ستنتهي بأن يصرح أحد الكتاب الفرنسيين بأن حضارتهم (الأوروبية) تتبدد وتنهار، وإنها في نهاية السباق، لأنها لا تنتج شيئاً؟ ثم يصرخ: «المركب يغرق، ولا فائدة من وضع الإطارات المطاطية».
إنها تصوير قاتم، ولكن أليست الحالة العربية الآن أكثر قتامةً وأشد بؤساً؟
إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"العدد 4948 - الخميس 24 مارس 2016م الموافق 15 جمادى الآخرة 1437هـ
استادى شكرا العرب الله اعطاهم هديه ثمينه وهو محمد واله\\ص\\ ماعرفو اقدرون هادى الهديه للمعامله ويه شعوبهم واهملوها ومشور ورى الكفار وتركو دين الله لهادا الشعوب تصرخ منهم ليل نهار الله اخلصهم من ظلم الجهله
مقال جميل و مهم جدا لاخذ العبر قيل فوات الاوان.
التطرّف و الاٍرهاب لم يكن له وجود قبل عام تسعة و سبعين...
في النهايه لا يصح الا الصحيح . اما بالنسبة لبلاد العرب فهل كنت تتوقع ياحضرة الكاتب بأنها سوف تدوم لاكثر من سنها الأفتراضي القصير ؟ انت من أكثر الناس من يعرف دلك جيدا . انا كنت ولا أزال اطلق عليها ظواهر صوتيه مؤقته .