(كلمة الرئيس التنفيذي لبنك البحرين والكويت عبدالكريم بوجيري في حفل أقيم في 16 مارس 2016 بمناسبة تقاعده)
بسم الله الرحمن الرحيم
«رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي»
بداية أود أن أتقدم بجزيل شكري وعظيم امتناني إلى أعضاء مجلس إدارة بنك البحرين والكويت الكرام وعلى رأسهم السيد مراد علي مراد على تفضلهم بالأمر بإقامة حفل تقاعدي هذا وبحضورهم الشخصي ها هنا، كما أود أن أتقدم الى أصحاب السعادة الحضور وإلى جميع الحاضرين من عملاء البنك بأسمى آيات التحية والتقدير والعرفان لتشريفهم هنا هذه الليلة، وإلى كافة زملاء المهنة الحاضرين معنا هذه الليلة أجمل التحايا وجزيل الشكر، وأخيرا وليس بآخر، امتناني وشكري لحضور والدي الكريم متعه الله بالصحة والعافية ولكل أفراد العائلة الكريمة وكافة أصدقائي الحاضرين معنا الليلة وعلى رأسهم زوجتي العزيزة والغالية أم طارق.
كما لا يفوتني الترحيب بسعادة السيد عبدالله بن حمد بن سيف البوسعيدي والذي تحمل مشقة السفر لمشاركتي حفل الوداع هذا، فله جزيل الشكر وعظيم الامتنان على جميل صنعه هذا.
أسمحوا لي بداية أن اعتذر لكم عن طول كلمتي هذه فلقد كانت أربعون عاما من العمل المتواصل والتحدي الكبير بما فيها من ألم وفرح وسرور والتي لا يمكن اختزالها في كلمات أو صفحات محدودة، فأستميحكم عذرا أن أطلت عليكم قليلاً...
قبل حوالي 55 عاماً وعندما كنت في الخامسة من عمري... كانت والدتي رحمها الله تصحبنا معها لزيارة بيت أختها رحمها الله وذلك في كل مساء بدءا من الساعة السابعة مساء حتى انتهاء برامج تلفزيون «أرامكو» قبل منتصف الليل بقليل، لأنه في تلك الفترة لم يكن في مقدور الجميع امتلاك جهاز تلفزيون، فلذا كنا نجتمع مع كل أفراد العائلة الكبيرة في بيت خالتي لمشاهدة البرامج التلفزيونية والاستمتاع بفيلم الاسبوع العربي أو مشاهدة المصارعة الحرة بتعليق الاستاذ الفاضل عيسى الجودر، وفي أحد الليالي في تلك الفترة، وكالعادة أخذت أمي ادراجها ونحن الستة آنذاك من أولادها وبناتها بمعيتها للعودة الى منزلنا، إلا أنه في تلك الليلة وعندما وصلت أمي الى المنزل اكتشفت بان أولادها كان ناقصا أحدهم، ألا وهو أنا، فاضطربت والدتي وبدأت في البحث عني أولاً عند بيت خالتي ومن ثم في المسار الذي نسلكه عادة، وكذلك كان فعل والدي واخواني واختي، وخلال عملية البحث المضنية انتشر الخبر في الحارة وجعل كل الجيران يستنفرون للبحث عني، ومع بزوغ الخيوط الأولى للفجر استطاع أحدٌ من الباحثين العثور علي نائما بجوار حائط منزل جارنا رحمه الله السيد اسماعيل المير والد الاخ الكريم خليل المير الذي يتواجد معنا هذه الليلة وله مني كل التحية، كنت مستغرقاً في نومي بجوار ذلك الحائط نوما بريئا وديعا برأس لا هم فيه ولا غم وبجانب رأسي كانت هناك قطة سوداء وكأنها كانت تحرسني، والمفارقة هنا، من هو ذلك الشخص الذي عثر علي؟ كان ذلك مراد علي مراد... وها أنذا هنا بعد 55 عاما أجده أمامي أيضا في هذا الحفل الكريم كرئيس لمجلس إدارتي الموقر والذي أحاطني بكل الرعاية والدعم اللامحدود طيلة عملي في هذا البنك خلال الخمسة عشر السنة الماضية... فلك يا أبو علي كل التحية وجزيل الشكر من هذه المنصة على حسن رعايتك لي وجميل اهتمامك بي أثناء خدمتي في هذا البنك المعطاء.
أنني أقف اليوم بين أيديكم بشعورين متضادين... أولهما الفرحة بالتقاعد عن العمل بعد 40 سنة من العمل الجاد والدؤوب، وثانيهما الحزن والألم لمغادرة ووداع زملائي وأصدقائي بل أخواتي واخواني في البنك، وأنتم عملاء البنك الكرام والذين قضيت معهم وبينهم أحلى 15 عاما من عمري المهني... لقد بدأت حياتي كعامل بناء خلال الاجازات المدرسية الصيفية بأجر كان مقداره 3 روبيات وأربع آنات، ومن بعد تخرجي من المدرسة عملت كصيدلي في مستشفى النعيم قبل أن أتركهم متوجها لدراستي الجامعية في جامعة حلب العريقة آنذاك بسوريا الجريحة حالياً... لينتهي بي المطاف في آخر عمري المهني كرئيس تنفيذي لبنك البحرين والكويت.
خلال هذه الرحلة تعلمت الكثير والكثير من الدروس والعبر يصعب سردها هنا، ولكن اسمحوا لي بأن استعرض معكم أهمها:
أولاً: يجب مواكبة تطورات العصر أولا بأول ويجب ان لا نتقاعس في حصر أنفسنا ومنتجاتنا وخدماتنا في خانة الجيل القديم بتاتا والا سنقبع في دائرة العتمة والتهالك، فعندما نكون أمام خيارين يجب دائما ان نختار الخيار الأكثر تحدياً لأنه سيكون الخيار الذي سيساعدنا على القوة والنمو، فالأشياء الجميلة لا تأتي إلى المنتظرين الراضين بالوضع، ولكنها وحتى الأجمل منها سيأتي الى من يعمل عليها بجد ومثابرة، فالإنسان سيظل ناجحاً ما دام يتعلم فإذا اعتقد انه قد عَلِم، فقد حكم على نفسه بالفشل، والمؤسسات التي لا تتغير ولا تتعلم سيتم استبعادها من المنافسة.
ثانياً: التدريب والتدريب المتواصل ونهل التحصيل العلمي والمهني نهلاً جاداً للتسلح به في جميع الأوقات والمحن ومن ثم بناء مؤسسة ذات صرح وأعمدة قوية للتسلح بها عند الحاجة، فإننا حينما ندرك النجاح بدون تحديات فذلك يسمى نصراً، ولكن عندما ننجح في ظل العديد من التحديات والمشاكل فذلك يسطر تاريخا لا يمكن نسيانه او محوه، ولكن يجب علينا فعل ذلك بمرح وسعادة حتى لا يكتئب الموظف وحتى يتشوق للعمل بشغف وباستمرار. وعلى ذكر المرح أتذكر أنه في عام 1983 أبتعثت من قبل مستخدمي السابق (بنك الخليج الدولي) لحضور دورة ائتمانية بأثينا في اليونان لمدة ستة أشهر، حضرت تلك الدورة التدريبية مع زميل لي من نفس البنك أجهل جنسيته الى يومنا هذا، فلقد ولد بلبنان وعاش في أمريكا فترة طويلة وتزوج في الارجنتين وعمل في البحرين ولديه جوازات سفر فنزويلية وأميركية ولبنانية والآن يعيش حيث ولد. المهم كنا نسكن سوية في شقتين منفصلتين بفندق البرازيل بمنطقة جليفادا القريبة من أثينا، وكان لدى كل منا مفتاح شقته ومفتاح باب الفندق الرئيسي حيث كان الفندق يغلق ابوابه بمنتصف الليل حتى الصباح الباكر. وذات ليلة عند الساعة الثالثة صباحا وانا أغط في نوم عميق بدأت اسمع ضربا من الحجارة الصغيرة على نافذة غرفة نومي المطلة على الشارع العام. كان الضرب مستمرا وملحا فنهضت من سريري متجها ناحية النافذة لاستطلع الامر، فاذا بي أرى صديقي ذاك مترنحا من اثر شرب المسكر ويسألني ان ألقي عليه بمفتاح الباب الرئيسي للفندق الذي نسي ان يأخذه معه، فأنصعت للأمر مجبراً، إلا أنه في صباح اليوم التالي وبخته بعنف متوعدا أن لا أساعده مرة أخرى اذا أعاد الكرة. ألا انه لم يمضي أكثر من اسبوعين لأجده يعاود القصة من جديد. صحوت من نومي أشتعل غضباً وناوياً كل الشر واقسمت بالله بانني لن أرمي له المفتاح هذه المرة، ولكن ما أن فتحت النافذة متطايراً من الشرر حتى وجدته يترنح من جديد ويهز بمجموعة من المفاتيح بيده قائلا فقط اردت ان اخبرك بأنني لم أنسى المفتاح هذه المرة، وددت حينذاك بأن امسك برقبته وانال منه حتى أشفي غليلي، هذه هي من الذكريات الجميلة التي كانت تلطف أجواء التحصيل العلمي الشاق والمضنى.
ثالثا: يجب تعلم فن التمكن في فرض القرار على أصحاب القرار عندما لا نمتلك الصلاحية، Exerting influence when we don’t have the authority.
رابعاً: الذكاء العاطفي مهم جداً لتحفيز الموظفين والعملاء وكافة أصحاب المصلحة بالبنك لاستخراج أحسن ما لديهم، ولكن في الآونة الأخيرة أصبح الذكاء المجتمعي أكثر أهمية.
خامساً: العمل بكل جد واخلاص والتمسك بجوهر وأبجديات العمل من دون الخوض في منتجات جديدة معقدة قد لا نعي مخاطرها، وذاك كان من أهم مسببات الخسائر الكبيرة التي تكبدتها معظم بنوك العالم بما فيها بنكنا أبان أزمة الرهن العقاري الأميركية والتي هزت القطاع المصرفي في 2007 / 2008، فالطريق إلى النجاح لا يتأتى عبطا لأولئك الذين يتسلقون السلم وأيديهم في جيوبهم، ولنتذكر دائما بأن الثقة بالنفس والعمل الجاد هو خير دواء لقتل مرض الفشل.
سادساً: العنصر البشري أهم من أية أصول أخرى وبدرجة كبيرة لأي مؤسسة تجارية، فالموظفون وشغفهم بالعمل هو ما يميز أي مؤسسة عن غيرها والمؤسسات التي تركز فقط على جني الأرباح قد تبني مؤسسة مربحة وصلبة، ولكن عندما تركز على العنصر البشري وتطويره فإنها تبني إمبراطورية واعدة ومستقرة، ففي عالم اليوم أصبح نسخ الإبداع والمنتج أمراً هيناً، ولكن نسخ المواهب الفردية أمر محال.
سابعاً: الأمانة والاخلاص، والأهم من ذلك السلوك والأخلاق في العمل والنأي بالمصالح الشخصية جانباً ضرورة ملحة وخاصة في ظل تطور واتساع قوانين الحوكمة والشفافية.
ثامناً: المراقبة المستمرة والاستشعار عن بعد لما يحدث حواليك يعطي الجرعة الصحيحة لتمكين المؤسسة في المنافسة المحتدمة.
تاسعاً: رحابة الصدر وفتح الأبواب لكل الموظفين والعملاء على حد سواء بأكبر قدر من الشفافية، غدى أمراً مهما لكسب ولائهم للمؤسسة.
عاشراً: العمل الجماعي والابتعاد عن الانفراد بالقرارات مهم جداً لاتخاذ القرار الأنسب.
أحد عشر وأخيراً: أن الانتظار حتى تصبح جميع الظروف والأجواء ملائمة ومؤاتية سيؤدي إلى عدم فعل أي شيء بتاتاً وسيؤدي إلى الوصول إلى وضعية محلك سر، وستفقد حضورك في السوق لذا يتوجب التركيز على روح المبادرة.
إقرأ أيضا لـ "عبدالكريم أحمد بوجيري"العدد 4946 - الثلثاء 22 مارس 2016م الموافق 13 جمادى الآخرة 1437هـ
جميل جداً، ونتظر شيء إبداعي من شخص له هذه الخبرة الإدارية الكبيرة
ياليت اعرف من هو صاحب التعليق رقم ٧ والذي كان يعمل معي في بنك الخليج الدولي. (عبدالكريم بوچيري)
سعدت بكل التعليقات واتمنى لكم جميعا السعادة وتمام الصحة.
بالتوفيق وأتمنى لك حياة سعيدة
لا اعرفك ولاتعرفني ولكن موضوعك جميل
الرجل المناسب في المكان المناسب، وإن تركه.
بارك الله فيك بو طارق. كنت مثلي الأعلى في بنك الخليج الدولي.
في نصيحه راح اتعلمها من اليوم ' فن التمكن في فرض القرار ' صدق يبي لى اسوي هالشي دورة كتب ماحصلت يبلي واحد يعلمني.
بارك الله فيك وفي جميع جهودك وافكارك الفذه .. حقا انت خير مثال للمواطن الذي يعشق وطنه وعمله
منال أحمد
فعلا نصائح من ذهب أتمنى من كل رئيس تنفيذي أو رئيس شركة قراءة خلاصة تجارب هذا الشخص ليعلموا أن العنصر البشري المؤهل والمدرب أهم مكسب في الحياة وأهم انجاز يفتخر به ويتم الاشادة به طول العمر وليس فقط الارباح كما ذكر الأخ الكريم . والدليل المدرس يلقى الاحترام والتقدير من طلابه طوال حياته لأنه اهتم بالعنصر البشري. شكرا عبد الكريم بوجيري
كلمة رائعة من بحريني مخلص
ملهمة هذه الكلمة من لدن إداري بحريني شغوف يلخص سني عمره في إضاءات لا بد منها، وأضيف على ذاك أهمية الإيمان برسالتك وإن صغرت.. المهم أن تمضي قُدُماً بشغف لا يتوقف ومرونة متواضعة وإصرار لا يكل. حري بمثل هذه الشخصيات ان تعقد فعاليات للاستفادة من خبراتها والتقاعد مرحلة جديدة لتقديم الخبرة وليس لإنهاء العمل. شكرًا لك وشكرا للوسط