العَمَلَّس. هو «رجل كان باراً بأمه، يحملها على عاتقه، ويحجّ بها على ظهره كل سنة، فضربوا به المثل، ليتأسى به البنون» كما يذكر الدَّمِيري في «حياه الحيوان الكبرى». لذلك قيلَ هذا المثل: أبَرُّ من العَمَلَّس. أما في معنى هذا اللفظ فقد جاء أن من معاني العَمَلَّس أنه «القوِيّ الشديد على السفر».
اليوم، والأرجاء تحتفل بما خُصِّصَ للأمهات من عيد، لا بأس أن نتحدث عن شيء أكثر أهمية من الحفل ذاته، ألاّ وهو الشعور بالأم. وكم هو عميق ودقيق بين أن تعلم بالشيء وبين أن تشعر به. فالشعور بالشيء يعني أنك تصبح جزءاً منه، فتشعر بحزنه وفرحه، وألمه وراحته، وضعفه وشدَّته.
وعندما يصل المرء إلى هذا المنسوب، فإنه يتدرج إلى حدّ يرى فيه أن راحته من راحة ذلك الشيء، وأن حزن ذلك الشيء هو حزن فيه ينعكس مباشرة بداخله، وفرحه وألمه وشدته وكل شيء كذلك. هذا هو البرّ الحقيقي، الذي يجب أن يُعطَى للأمهات في أعيادهن. وهو أمر أجدَى بكثير من أي شيء آخر، ومنها المهرجانات التي تُقام في العلن، وكأن الأمر كرنفال يبدأ وينتهي في ساعة لا أكثر من ذلك.
لو دققنا في أحوال الأم لرأينا العَجَبَ العجاب. ففي كل لحظة من لحظاتها مع مَنْ تُنجِبهم تكون في غاية الإيثار، بدءاً من الحمل بهم، ثم وضعهم، فدخولهم في درجات العمر المتوالية، حيث تراها تحاذر في أكلها من أجلهم، ولا تنام ماداموا هم في صحوٍ وحركة. ثم لا تشرب ولا تأكل إلى أن تطمئن عليهم، حتى يكبروا. يستمر هذا الحال سنينَ طويلة، حتى عندما يصبح أولادها أصحاب أسَر!
إنها باختصار تُسلِّم حياتها وشبابها وصحتها من أجلهم. لكن ما يغيب عنا جميعاً أن هذا البَذل هو في حقيقته علاقة عكسية بكل معنى الكلمة. فكلما أعطتك أمك فَقَدَت هي شيئاً من عندها. تفقد من عمرها ومن صحتها ومن سلامتها. فكأنك تكبر لكنها في الوقت نفسه تصغر كثيراً. وقد جاء التعبير القرآني بليغاً في وصف ذلك: «وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْق». (يس: 68).
وعندما نُدرك ذلك نُدرك أيضاً أننا وفي ساعات وأيام وشهور وسنوات نموّنا تفقد أمهاتنا المقدار ذاته الذي يجعلنا في أبهى صورنا وأكمل أجسامنا وأبهج حياتنا وأتمّ عافيتنا. لذلك ما يجب أن يُتخيّل هو مَنْ لهؤلاء الأمهات عندما يُنَكَّسْنَ في الخلق ويعدن كالعرجون القديم، وتتلوى وجوههنّ تحت سياط التجاعيد ويَكُنّ في حاجة لمن يعينهن بالحاجة ذاتها التي كنا عليها ونحن صغار؟!
هنا، يظهر حجم البرّ والوفاء. فأنتَ تكون مَدِيناً لشخص، أعطاك مبلغاً من المال عندما كنتَ في عَوز وفقر، فلا تنسى له هذا الجميل مهما تقادمت السنين، فكيف بمن يعطيك جزءاً من روحه وحياته ليجعلك تعيش في أحسن ما يكون من حال على حساب نفسه؟! هذا أمر جدير بالتأمل فعلاً. لذلك علينا جميعاً أن نُكرِّس في داخلنا أننا مهما فعلنا سنبقى عاجزين عن الوفاء لأمهاتنا.
خلال قراءتي شيئاً من التاريخ وجدتُ أن مثل هذا الأمر كان مُعظّماً عند أقوام عِدّة. وكان مَنْ كُتِبَ لهم شيءٌ من خلود الذكرى قد رُدَّ إلى هذا الأمر، وهو البرّ بالأم، وبالتحديد من العلماء والفلاسفة. ولو أنهم لم يكونوا كذلك لما ذُكِروا بهذه الفضيلة الكبيرة المقدّمة على كل فضائلهم.
فقد جاء في أول تعريف لسيرة الإمام العلامة المحقّق شهاب الدّين أحمد الحسامي الشافعي أنه كان «بارّاً بأمّه قائماً بمصالحها» قبل أن يُقال عنه أنه صابر متواضع طاهر مُحدّث «يرجع إليه العلماء في المعقولات ويعدلونه في العربية بابن مالك، وابن هشام» كما يذكر ابن العماد الحنبلي.
ومما جاء عن الإمام أبي بكر محمد بن بشار البصري النساج، وهو أشهر مُجوّدٍ ومتقنٍ وعالم بحديث البصرة أنه «لم يرحل براً بأمه ثم ارتحل بعدها» كما يذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ. ويُذكر عن أحد الفقهاء وهو علاء الدولة البيابانكي السمناني أنه آثر البقاء في بلده براً بأمه على رغم حاجته للسفر.
ومما جاء في تهذيب الكمال في أسماء الرجال لجمال الدين المزي أن طلق بن حبيب العَنْزِي البصري وهو من التابعين والعلماء الكبار كان براً بأمه ويُضرَب به المثل في ذلك، وأنه قد «دخل عليها يوماً، فإذا هي تبكي من امرأته، فقال لها: ما يبكيكِ؟ قالت له: يا بني أنا أظلمُ منها، وأنا بدأتها وظلمتها، فقال لها: صدقتِ، ولكن لا تطيب نفسي أن أحتبس امرأة بَكَيتِ منها».
في المحصلة وقبل أن نضع نقطة نهاية السطر، نقول إننا جميعاً ننحني لكل الأمهات، الأحياء منهنّ والأموات ونُجلّ فيهن هذا الإيثار والتضحية لبناء الأجيال. فالموت لا يُغيّب فضائل الإنسان، حتى لو مرّ على رحيله مئات السنين. لذلك، فالتحية شاملة ودائمة لجميع الأمهات.
ونقول لكل مَنْ فَقَدَ أماً إن الأمومة لم تَمُت فهي حاضرة في الوجدان، وفي كثير من قلوب الأمهات الأحياء، اللواتي يَسَعْن بقلوبهن ما هو أكثر من أبنائهن الذين أنجبنهن. فالأمومة ليست بيولوجية بالضرورة، فكم من أمهات، شَعَرْنَ ويَشعرن بأطفال لم تحملهنّ بطونهنّ. والحوادث في ذلك كثيرة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4942 - الجمعة 18 مارس 2016م الموافق 09 جمادى الآخرة 1437هـ
شكرا اخوي محمد على مقالك الرائع والذي ينم عن ثقافة عالية و علم غزير
ذكرت الام و ما افضت لها من الكلمات والقصص الجميلة ولكنك لم تذكرالصديقة الكبرى فاطمة الزهراء كم لها من الايثار والتربية بزوجها و اولادها و ايضا ان الامام زين العابدين كانت له قصص و مواقف و أداب مع امه
سيد حسين
اللهم ارحمهما كنا ربياني صغيرا
شكرا أبو عبدالله على المقال الرائع
من افضل ما قيل منشعر عن حنان الام
اغرى امرؤ يوما غلاما جاهلا ...... بنقوده كيما ينال به ضرر
قال ائتني بفؤاد أمك يا فتى ...... ولك الجواهر والدراهم والدرر
فمضى وأغمد خنجرا في صدرها ..... والقلب أخرجه وعاد على الأثر
لكنه من فرط سرعته هوى ........ فتدحرج القلب المضرج إذ عثر
ناداه قلب الأم وهو معفر ...... ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر؟؟؟؟
وقل رب اغفر لهما
اللهم اغفر لابائنا وارحمهم برحمتك كذلك قصة أُوَيس القَرْنيّ، التابعي الجليل أدرك زمن النبي محمد ولم يره، وقد شهد له النبي محمد بالصَّلاح والإيمان وبرّه بوالديه الذي منعة من الالتحاق بالنبي (ص) لشدة بره بهما....