تنعقد في جنيف أعمال الدورة الواحد والثلاثين لمجلس حقوق الإنسان والتي تستمر من (28 فبراير/ شباط) حتى (24 مارس/ آذار 2016) وتخيم الأزمات على جدول أعمال هذه الدورة بشكل استثنائي.
تنعقد هذه الدورة في ظل حروب مشتعلة على امتداد الوطن العربي، قد تتحول إلى مواجهة عالمية ما بين معسكري الولايات المتحدة وروسيا، كما أنَّ أعمال الإرهاب من قبل المنظمات الإرهابية والتكفيرية المدعومة من بعض الدول، تضرب على امتداد العالم من أميركا حتى استراليا، ومن النرويج حتى السودان وما بينهما. ويترتب على ذلك خراب غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، إذ يقترب ضحاياه من مليون إنسان، إضافة إلى ملايين الجرحى والمهجرين وتدمير للبُنى التحتية، والأخطر خراب النفوس.
وكنتيجة مباشرة، فهناك أزمة إنسانية خطيرة وتجلياتها عديدة في ضحايا الحروب والنزاعات المباشرة، وموجات هائلة لا سابق لها من المهجَّرين من الدول العربية والإفريقية باتجاه الأمان في أوروبا، إذ تجاوز اللاجئون ممن وصلوا إلى أوروبا المليون، وهناك ملايين في الطريق، عدا من تبتلعهم مياه المتوسط كل يوم.
وفي ظل أجواء الحروب الداخلية والإقليمية وفي ظل استراتيجية مكافحة الإرهاب بأي الثمن، فإنَّ أول ما يجري التضحية به هو حقوق الإنسان، والتي تتراوح ما بين الأزمة والمشكلة، ولذلك فقد شهد العام الماضي عددًا هائلاً من الضحايا من القتلى والجرحى والنازحين والمعتقلين والمطاردين والإعدامات والأحكام الجائرة، ويترافق ذلك مع صنوف لا سابق لها من الفظاعات التي ترتكبها الأنظمة والمنظمات الإرهابية، مثل داعش والنصرة وبوكو حرام و»القاعدة» وأخواتهم، وفي ظل الحروب فإن المناطق التي تسيطر عليها المنظمات الإرهابية في الوطن العربي وافريقيا قد أرجعت البشرية إلى عصور الانحطاط.
المفارقة أن الأمم المتحدة تحتفل في هذه الدورة بحدثين مهمين، وهما الذكرى الخمسون لإقرار العهدين الدوليين، وهما العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، واللذان يعتبران العمود الفقري لمنظومة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وكذلك بالذكرى العاشرة لإنشاء مجلس حقوق الانسان، والذي أريد له أن يكون الجسم الأساسي للتعامل مع حقوق الإنسان لكل من الدول والأمم المتحدة (المفوضية السامية وأجهزة الاتفاقيات) والمنظمات الحقوقية الأهلية. كما تنعقد هذه الدورة بعد إقرار الأمم المتحدة استراتيجية اهداف التنمية المستدامة 2025 في (سبتمبر/ أيلول 2015).
لذلك، فإن أجواء الدورة تتراوح ما بين القنوط من الوضع المأساوي الحالي، وما بين الأمل بخروج الإنسانية من هذه المحنة، بإعمال العقل قبل فوات الأوان.
الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في كلمته شدد على أن حقوق الإنسان هي في قلب استراتيجية التنمية المستدامة، وأن فرق الأمم المتحدة وأجهزتها مستعدة للتعاون مع مختلف الدول لتنسيق الجهود وتكامل أهداف التنمية المستدامة وطنيا وعالميا بمختلف أبعادها وفي قلبها حقوق الإنسان.
المفوض السامي لحقوق الإنسان الأمير زيد الحسين أكد في كلمته أن هناك أزمة حقوق الإنسان في عدة بلدان عربية، وهي ليبيا وسورية والعراق واليمن والسودان وفلسطين، وأن استراتيجية مكافحة الإرهاب على حساب حقوق الإنسان ستفاقم أوضاع حقوق الإنسان وتصعّد الإرهاب، وحذر من عدم حلّ أزمة حقوق الانسان ولو على مراحل، وإلا سيكون الانفجار الأكبر قادماً لا محالة. كما أشار الى اضطهاد الحقوقيين وتهميش المنظمات الحقوقية والمجتمع المدني، خلافًا لمنظومة حقوق الإنسان.
رئيس مجلس حقوق الانسان للدورة 31 تشوي كيونغ ليم حذر من المخاطر المتزايدة للتمييز والإقصاء والتهميش، وشدد على ضرورة أن يظهر أعضاء المجلس إرادة حقيقية في حل معضلات حقوق الإنسان في بلدانهم والتعاون فيما بينهم، وكذلك مع أجهزة الأمم المتحدة ومع المجتمع المدني.
تناوب على الكلام ما يعرف بالشخصيات البارزة، ومن بينهم وزراء خارجية، مثل وزير الخارجية الروسي لافروف، ووزراء مختصون بحقوق الإنسان، ورؤساء الهيئات الرسمية لحقوق الإنسان، ويمكننا التمييز بشكل واضح ما بين الدول الديمقراطية والتي يغض النظر عن حضورها في مجال حقوق الإنسان، فإنها صادقة في طرحها للمشاكل المتعلقة بحقوق الإنسان، وبعضها مثل اليونان وألمانيا، تعاني من ضغوط هائلة بسبب الموجات الهائلة للاجئين، وبعضها مستجد مثل كندا في ظل حكومة ترودو، أبدت استعدادًا لاستقبال مزيد من اللاجئين، وفي المقابل، هناك الحكومات الاستبدادية، التي وإن تغنت بحقوق الإنسان، إلا أنها تسُوق التبريرات لانتهاكاتها لحقوق الإنسان تحت دعاوى حماية المجتمع وحماية الأمن الوطني، وهي انتقائية في تناولها لملفات حقوق الإنسان، وهاتان المجموعتان تتوزعان على القارات الثلاث.
والمؤشرات تدل على اننا في أعلى سلم الفساد والاضطهاد وانتهاكات حقوق الإنسان، وفي أدنى سلم الحرية والتنمية، وعلى رغم ذلك يتباهى مندوبو الدول العربية في استعراض إنجازات وهمية لحقوق الإنسان والتنمية. ومن تجليات هذا الوضع المزري هو أنه في حين تزدهر المنظمات الحقوقية الأهلية الوطنية والدولية في الدول الديمقراطية، إذ يحظى مندوبوها في جنيف بالتقدير والدعم الكبير من قبل بلدانهم والتي ينتقدونها بصراحة، فإن غالبية ممثلي المنظمات الحقوقية العربية هم قادمون من المنافي، والبعض يخاطبون الاجتماع عن بعد، والبعض الآخر خلف القضبان، ليس هذا فقط؛ بل إنهم وهم في جنيف يتعرضون للتهديدات والتشهير والابتزار من قبل حكوماتهم وحشد منظمات الغونغو الموالية.
وبحسب إجراءات المجلس هناك حق الرد من قبل مندوبي الدول، إذ إنَّ هَمَّ الدول الاستبدادية هو إنكار ما يرد بشأنها، واتهام الطرف المنتقد وهو ما يساهم في فضح مختلف الدول المنتهكة وكما يقول المثل «إذا اختلف اللصوص بانت جرائمهم»، كما أن نظام المجلس يسمح للمنظمات الحقوقية المعتمدة في المجلس، بإلقاء كلمات مختصرة، وهي بذلك تقدم الوجه الآخر لأوضاع حقوق الانسان في مختلف البلدان، وهنا نحيي شجاعة هؤلاء الحقوقيين الذين يتعرضون للعقاب والملاحقة في بلدانهم.
إنه في مقابل التحالف الأناني للدول الاستبدادية ضد الإنسان وحقوقه، فإن هناك أيضاً تحالفاً للدول ذات النزعة الإنسانية والمنظمات الحقوقية المخلصة لحقوق الإنسان.
الدورة الواحدة والثلاثون لمجلس حقوق الإنسان شهدت طرح الملفات المتعددة لحقوق الإنسان، والكثير من الفعاليات الرسمية والأهلية المصاحبة واللقاءات، إذ يسهم كل ذلك، على رغم كل شيء، في فضح الانتهاكات والمنتهكين وتقويض شرعيتهم، وفي المقابل تعزير النضال من أجل حقوق الإنسان والشعوب في مسيرة طويلة لن تتوقف.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 4942 - الجمعة 18 مارس 2016م الموافق 09 جمادى الآخرة 1437هـ