كُتب على اللوح المسماري العائد إلى ملحمة «جلجامش»: «الأرض... دلمون، هي الموطن الطاهر... دلمون هي الأرض المشرقة... إن ذلك المكان نظيف مشرق... في دلمون لا ينعق الغراب الأسود، والحدأة لا تصرخ صراخ الحدأة، ولأسد لا يفتك، والذئب لا يفترس الحمل، والكلب قاتل الجداء غير معروف هناك، والأرمد لا يقول إني أرمد، ومن به صداع لا يشكو من صداع، وامرأة دلمون العجوز لا تشكو من الشيخوخة، ورجل دلمون الشيخ لا ينحني من كبر السن».
كاف موشي كونو أبويا
ذلك النموذج من الملحمة الشهيرة، عرضه أستاذ حضارة الشرق القديم واللغات العراقية القديمة قصي منصور التركي، مساء أمس الأول الخميس (17 مارس/ آذار 2016)، في محاضرة بجمعية تاريخ وآثار البحرين حول عنوان «دلمون من خلال النصوص المسمارية المكتشفة في بلاد الرافدين»، متناولاً تحديد اسم دلمون في الكتابات المسمارية (الرافدينية)، وذكر دلمون في النصوص المسمارية الخاصة في أساطير بلاد الرافدين، ودلمون في الكتابات المسمارية، وكان لافتاً أن المحاضر بعد الترحيب بالحضور قال: «كاف موشي كونو أبويا» وهي تعني باللغة الآكادية «طاب مساؤكم جميعاً».
وفي معرض حديثه عن أهمية الكتابات المسمارية في الكشف عن حضارة دلمون، أوضح التركي أن المصادر المسمارية المكتشفة في بلاد الرافدين تعتبر من بين أهم وأقرب المصادر لدراسة آثار حضارة وتاريخ دلمون، ذلك لأن هذه المصادر تغطّي فترة طويلة تبدأ من الألف الثالث قبل الميلاد، وتنتهي مع آخر عهود الحكم الوطني في العراق القديم والمتمثل بسقوط «بابل»عام 539 ق.م.، ومن أهم خصائص تلك الكتابات أنها لا تلتزم بفترة زمنية أو حضارية محـدّدة، فعلى رغم أن بعضها دوّن في زمن أو عصر محدد يرجع مثلاً إلى الدّولة الأكديّة أو البابليّة أوالآشورية، إلا أن أحداثها وقعت في زمن دويلات المدن السومرية من بداية الألف الثالث قبل الميلاد.
إقليم دلمون التاريخي
وعن «دلمون في الكتابات المسمارية»، لفت إلى أنه عندما نتحدث عن «البحرين» (دلمون) حضارياً فإننا نقصد بذلك منطقة إقليم دلمون التاريخية والتي تمتد من جنوب العراق عند مصب نهري «دجلة» و «الفرات» عند مدينة «البصرة»، إلى شمال غرب «عمان» جنوباً، كما تضم إليها كل المواقع الخليجية والمدن الواقعة على الساحل بما فيها المنطقة الشرقية من «شبه الجزيرة العربية» والجزر الواقعة في الخليج العربي.
وظهر اسم دلمون لأول مرة في بعض النصوص الكتابية الأولية لظهور الكتابة في العالم (3500 ق.م) وبالعلامات التي تُلفظ بالسومرية «ني – تُك» (NI-TUK) ومن دون ذكر العلامة الدالة على البلاد «كي» (KI)، ثم ورد الاسم بذكر علامة البلاد، وتقرأ أيضاً باللفظ السومري «دلمون» (DILMUN)، وكان ذلك مع بداية التنقيبات في مدينة «الوركاء» جنوب العراق العام 1928 في «معبد إينانا»، ومع منتصف وأواخر الألف الثالث وما بعده من عصور تاريخية، ظهر الاسم «تلمون» (Tilmun)، في الكتابات اللغة الأكدية (البابلية والآشورية) ملحوقة بعلامة «KI» والتي تدل على البلاد، لتعني البلاد الطاهرة أو النقية.
ويرجح التركي اشتقاق اسم «تلمون» من أصل ذي ارتباط بشبه القارة «الهندية»، فالكلمة «تيل» (Til) في اللغة الما قبل الدرافية معناها «نقي» أو «طاهر» أو «نظيف»، وكلمة «مان» (Man) في اللغة نفسها، تعني «بلاد» أو «أرض» فيصبح الاسم تلمان (Tilman) من مزج الكلمتين «تل» و «مان» والمشابهة إلى كلمة «تلمون» (Tilmun).
أقدم وأول كتابة للغة منطوقة
ورجوعاً إلى الكتابة المسمارية، أفاد التركي بأن الطلبة في مدارس بابل وبلاد الرافدين عامة تعلموا الكتابة المسمارية في المدارس منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وقدم نموذجاً مكتشفاً لمدرسة من العهد البابلي القديم مع نموذج حقيقي لرقيم مدرسي (لوح من الطين القاسي) للتعلّم وصورة تخيلية للتعليم، فالكتابات المسمارية هي أقدم وأول كتابة للغة منطوقة من منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، كتب بها السومريون من الرافدينيين والدلمونيين، وقد بدأت صورية وانتهت مسمارية.
وقدم المحاضر نموذجاً لمحتوى رقيم طيني (لوح بالكتابة المسمارية) تمت كتابته بالقصب المثلث الرأس من العصر البالي، طوله 9.5 سم، وعبارة عن عقد زواج لزوجة ثانية بشروط الزوجة الأولى، في دلالة على تنظيم الزواج في ذلك العهد، والطريف أن الزوج واسمه «آميل آمل»، كتب عبارة منها «آخوكونو لاكو خزما»، يقدم فيها تبريراً لزواجه الثاني بقوله: «يا إخوتي، تزوجت لأن زوجتي الأولى لا تنجب»، والطريف أيضاً أن الزوجة الثانية وافقت على الشروط ومنها أن تغسل قدم الزوجة الأولى كل صباح، وتتولى عنها أمور رعاية المنزل ومرافقتها إلى المعبد.
الطوفان ورسو السفينة
ومن الأحداث التاريخية التي عرضها التركي وموثقة بالكتابات المسمارية هي قصة الطوفان ورسو السفينة، ورجح أن السفينة رست في دلمون، ودليله على ذلك أنه في ترجمة أسطر من اللوح الحادي عشر، يبين اللحظات الأخيرة لرسو السفينة على لسان رجل الطوفان، ما نصه: «سجدت وجلست أبكي، فانهمرت الدموع على وجهي، وتطلعت إلى حدود سواحل (البحر)، فرأيت جزيرة وهي تعلو مئة وأربعة وأربعين ذراعاً»، ذلك يجزم بأن الأرض التي رست عليها السفينة جزيرة، والتي هي ترجمة للكلمة الآكدية «ناگو» (nagû) والتي تعني جزيرة ومن معانيها أيضاً شاط، ومما يعزز هذه الفرضية أنه ومن خلال تتبع أسطر الملحمة في اللوح الحادي عشر نجد أن المكان وصف في نص الأسطر كالآتي: «وسيعيش (اوتونبشتم) بعيداً عند فم الأنهار، ثم أخذوني بعيداً وأسكنوني عند فم الأنهار».
وفيما يتعلق بالنصوص المسمارية الاقتصادية بين دلمون وبلاد الرافدين، فيفهم من خلال دراسة نصوص الكتابات المسمارية في أواخر الألف الرابع وبداية الألف الثالث قبل الميلاد، أن أغلب المواد المجلوبة إلى جنوب العراق لا يمكن أن تتعدى عناصر رئيسية ثلاث، هي الخشب والأحجار والمعادن وأهمها النحاس. وتتضح الموازنة بين تجارة بلاد الرافدين ودلمون من خلال نص مسماري: «2 منا مـن الفضة (قيمة) 5 كور مـن الزيت (و) 30 رداء... اقترض «لوميسلام - نـاوينجرسي - سانسابا» كرأس مال للشركة من «أور - ننما – كا»، لرحلة إلى دلمون لشراء النحاس».
العدد 4942 - الجمعة 18 مارس 2016م الموافق 09 جمادى الآخرة 1437هـ