سوزي شتاينر. هي روائية، وفي الوقت نفسه، صحافيّة حُرَّة بصحيفة «الغارديان» منذ أزيد من عقد. هذه الصحافية، تناولت قبل بضع سنوات في مقال لها كتاباً جديراً بالتأمل تحت عنوان: (The Top Five regrets of The Dying). الكتاب هو لبروني وير (Bronnie Ware). عن ماذا يتحدث الكتاب؟ يتحدث عن ممرضة استرالية كانت تعمل في مصحّة لكبار السن، فاستثمرت وجودها هناك كي تجري استبانة يجيب عليها الكهول في المستشفى.
دعونا نعيد التذكير بما كتبته. كان السؤال الذي عُرِضَ على الجميع (نساء ورجالاً): ما هي الأشياء التي تندمون الآن أنكم لم تفعلوها في حياتكم عندما كانت الفرصة سانحة لكم؟ كانت جميع الإجابات لافتة؛ كونها متطابقة أو تكاد، فضلاً عن أنها كانت شفافة وصادقة ومُفعَمة بالمشاعر، وخصوصاً أن جميع الذين أُخِذَت إجاباتهم كانوا يقضون الأسابيع الأخيرة من حياتهم!
من الأشياء التي تطابقت الإجابات فيها هي قول كل واحد منهم: «تمنيتُ لو كنتُ شجاعاً كي أعيش حياتي التي ارتضيتها لنفسي، وليست الحياة التي أرادها الآخرون لي». الإجابة الثانية التي أجمع كل مُستَنطَقٍ منهم عليها، هي: «تمنيتُ لو أنني لم أعمل بالصورة التي أجهدتُ فيها نفسي أكثر من اللازم». الثالثة: «كنتُ أتمنى لو أنني أملكُ الشجاعة كي أعبِّر عن مشاعري الحقيقية».
الإجابة الرابعة التي قالها جميع الكهول هي أنهم «تمنوا لو لم يقطعوا أو يُهملوا علاقاتهم مع أصدقائهم وبقوا على اتصال بهم». الإجابة الخامسة التي اتفق على قولها أولئك الذين كانوا على خط المغادرة من الحياة هي أن كل فرد منهم «تمنى لو أنه سَمَحَ لنفسه أن يكون سعيداً في حياته».
الحقيقة، أن تلك الفكرة التي ذكرتها بروني وير (Bronnie Ware) هي واحدة من ألمع الأفكار التي يغفل عنها السواد الأعظم من البشر، وهي ملاحقة تفكير وشعور الإنسان حتى آخر أيامه. فانحدار العمر، واعتلال الجسد، واقتراب الأجل، يُغيِّر العديد من القناعات لدى المرء، ويجعله ينضح بأمور «قد» لا يستطيع التصريح بها عندما يكون في غير تلك اللحظة، لذلك، يصبح التقاطها مهمّاً.
الأمر الآخر، أن تلك الإجابات «قد» تعكس طبيعة مجتمع بعينه، له نزعة مادية صرفة، ولا يميل كثيراً إلى الروحانيات، وهو حال العديد من المجتمعات الأوروبية (أو مجتمعات العالم الأول كما تُسمّى) إلاّ أن ذلك الأمر لا يُفقد تلك الإجابات أهميتها بالنسبة إلينا ولغيرنا؛ لأنها تتحدث عن أشياء إنسانية. بل هي في جوهرها تميل إلى الإشباع الروحي، لكن بالطريقة التي يفهمها ذلك المجتمع كالحب.
لكن الدرس من كل تلك الإجابات هو الذي يعنينا ونحن في أعمار شتى: كيف نعيش وكيف نشعر وكيف نفكر، وما هو المدى الذي نستطيع فيه أن نعيش ونشعر ونفكر لكن بإرادتنا؟! لقد تبيَّن لكل واحدٍ من أولئك الكهول أنه عاش كما يُحب الناس، وليس كما هو يُحب، وهو ما يعني أنه عاش ملغيّاً. فالإلغاء ليس بالضرورة ماديّاً. ففي أحيان كثيرة تُلغَى الأرواح وتُلغَى معها هوية المرء.
أن يعيش المرء كما يُحب لا يُعَد أنانية، بل هو من صميم الحرية التي مُنِحَت للإنسان من تكوينه. فحين يُجرَف الإنسان في نهر المجتمع العارم، ويُصاغ وفقاً للعقل الجمعي، فإن ذلك في حدّ ذاته أَسْرٌ لكن بطريقة ملتوية. إن صياغة حياة الآخرين عنوة هو قَتلٌ لمفاهيم عدة، كالاستقلال والإبداع الذي من المُحال أن ينشط في بيئة تقييدية لا ترحم، ولا تعرف سوى فرض الأغلال.
درس آخر نسأل فيه أنفسنا: ما هو نصيب العمل في حياتنا؟! إذا كان الفرد يعمل 40 ساعة في الأسبوع، فهذا يعني أنه يعمل 9680 ساعة في العام بعد استثناء الإجازات الأسبوعية والسنوية. وإذا كانت هناك متطلبات لعمل إضافي فإن عدد ساعات العمل ستزيد، فضلاً عن بقية الأعمال الحياتية الأخرى والمتوالية. بالتأكيد فما أعنيهم ليسوا طلاب الرزق، بل أولئك العاملين بإرادتهم واختيار حجم الوقت الذي يستنفذونه عقليّاً وعضليّاً في ذلك المجال لملاحقة الحياة وكثرة المال.
هذا الأمر (المتمثل في استطالة العمل) يجعل منا أقل اهتماماً بالكثير من الأشياء الضرورية. ربما الأسرة من الوالدين والأبناء، وربما الصحة الشخصية، وربما الحياة الاجتماعية الخاصة، وربما مساعدة الآخرين، وربما الاستزادة من العلم والثقافة وربما الهوايات وأشياء لا حصر لها، والتي إذا ما جُمِعَت كانت كنوزاً لا تُعوَّض في حياة الإنسان، يتحسّر عليها عندما يحين وقت الرحيل.
من الدروس التي نستفيد منها من ذلك الكتاب هو متى تحين اللحظة التي نستطيع فيها التعبير عن مشاعرنا. بالتأكيد فإن أولئك المُستَطلَعَة آراؤهم من الكهول وهم في تلك اللحظة العاطفية والحرجة لا يتمنون أن يُعبِّروا عن مشاعر كرهٍ أو بغضاء، بل عن الحب القائم على الميل نحو المُلِذ من الأشياء بحسب تعبير الآلوسي. وحين يعجز المرء عن التعبير عن حبه يُصبح ناشفاً قاطعاً لملذات تنمو بها روحه. والحقيقة أن الإنسان لو دقق في المشاعر فإنه سيجدها في كل شيء من الحياة.
في محصلة الدروس يشعر المرء، وهو يقرأ ما قاله أولئك الراحلون عن الحياة، أن الفرص التي كانت يُمكن أن تجعلهم سعداء كثيرة، لكنهم أساؤوا تقديرها، فحوّلوا تلك الفرص إلى فَوْت، فَحَرَمَوا أنفسهم من السعادة التي أثبتت التجارب، أنها عامل مهم من عوامل صحة الجسم. نعم، هموم الحياة لا تنتهي، لكن من التعاسة أن نزيد الهَمّ همّاً برفع الراية البيضاء والدوس على الأمل.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4940 - الأربعاء 16 مارس 2016م الموافق 07 جمادى الآخرة 1437هـ
هذه المقاله مفيده جداً
لسكان القري تحديداً ولمن يتبع شخص واحد كائناً من كان دينيّاً أو سياسيّاً يملي عليهم حياتهم وتفكيرهم ويقيدهم بأفكاره وصراعاته النفسيه الداخليه ويجعلهم يعيشون حاله نفسيه مرَضيّه لا يهنؤون بما حباهم الله بها من نعم كثيره تستحق الشكر وتستحق ان يستمتع بها الانسان وأولها حرية التفكير وتقدير الاشياء الصغيره والاستمتاع بها بدل العيش في نكد ومظالم لا تنتهي
الزائر رقم 9، كلامك به عنصرية ومناطقية واضحة وليست مستترة، محمد الذي كتب هذا المقال هو نفسه من أهل القرى كما تسميهم انت واضرابك، وها هو يحعلك تقرأ وتتعلم منه
انت محظوظ تشتغل 40 ساعة في الاسبوع إحنا نشتغل 48 ساعة في الاسبوع مع ساعة البريك تصير 54 ساعة في الاسبوع. مجبورين والا فنش
مقال جميل يستحق التأمل ... قبل فوات الأوان
مقال موفق، شكراًلك. تعقيد حياتنا الحالية والمثاليات و غيرها من الإمور أثرت إيجاباً وسلباً لاكن على قولت المثل إللي يبغي الصلاة ماتفوته
مقالاتك مفيدة
شكرا لك
قول الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام
إذا عاش امرؤ ستين عاما فنصف العمر تمحقه الليالي
ونصف النصف يمضي ليس يدري لغفلته يمينا عن شمال
وباقي العمر في هم وغم وشغل بالمكاسب والعيال
رائع يا أ. محمد…أنت مفكر بحريني رائد وواعد ويجب أن يحتفى بك. مقالاتك تنم عن فكر عميق ورصين ولا شك أن إبرازك هو إثراء للساحة الثقافية والفكرية.
Great artical
الكاسر
انا عايش اهني في هالمنطقة هم في هم
وين ما تفكر ... عندي التفكير ما ينتهي ما قصرت دولنا العربية خلت المواطنين هما علفها انفكر في كل شي