إن «يقين» على رغم أنها تصغرني بخمسة أعوام، لكني مازلت أتجاوزها عند المشي، «لديك لياقة جيدة أيها العجوز» تقول لي، أبطئ سرعتي، أتوقف قليلاً متظاهراً بالتعب، أسير بذلك المستوى، الذي لا يمكنني من تجاوزها أو التأخر عنها، كي لا أشعرها بهذا التفاوت، ففي لحظات ما يعود الكبار في السن أطفالاً من جديد، ويحتاجون إلى المجاملات بين الفينة والأخرى.
واحد كيلومتر، كُتب فوق الأرضية، «هذا كافٍ، لنسترح قليلاً هنا» كنت مرهقاً ولم أكن أتظاهر مثل المرة السابقة، جلسنا على كرسي حجري أمام البحر، والذي صادف أن زوجين شابين كانا قد تركاه قبل لحظات من وصولنا، أراد زوجان آخران أخذ الكرسي لكن يبدو أنهما قد رأفا بكبر سننا عندما توجهنا إليه فتظاهرا بأنهما لم يكن يقصدانه أصلاً ثم غيرا وجهتيهما.
كانت الشمس تشرق على خجل، حين قطعت يقين الصمت وبدأت بالحديث «راقني الجلوس هنا».
نظرت ناحيتها برضا، تابعت هي «باستطاعتي البقاء على هذا الكرسي لمدة طويلة دون أن أنبس بكلمة أو أحرك ساكناً، لا شيء سوى التحديق والتحديق والاستماع إلى البحر عندما يتكلم».
«رائع، وماذا يقول لكِ البحر»؟!
«لي!، ليس لي، إنه يكلّم الجميع».
«وهل أنا منهم (الجميع)»؟ رسمتُ قوسين في الهواء ساخراً.
«لا» قالت.
«إذاً هو لا يحدث الجمـ...».
«لا» قاطعتني... أدارت وجهها لي ثم أكملت «لا... لن تفهم».
فتحت قنينة الماء وتناولت بعضه، دقَقَت النظر في البحر باهتمام كما لو أنه يحدثها الآن وتحاول مراقبة شفتيه وهو يتكلم، قالت دون أن تدير رأسها لي «لن تفهم... إنها لغة أطفال».
«أطفال؟ «سألت متعجباً.
ابتسمت يقين كمن تذكر شيئاً لطيفاً، قالت: «خلال عملي في الحضانة، كنت أحدق في الأطفال لمدة طويلة، لغتهم ليست بتلك السهولة، أحيانا كنت أخمن كلامهم عبر إيماءات الأيدي التي تزامن حوارهم وكنت أشعر بأنني أصيب في بعض المرات، لكن عدم فهمي لحوارهم لم يمنعني من مواصلة التحديق... تمامًا كالبحر».
«فهمت» قال رأسي وهو يتأرجح موافقاً.
أردفت يقين «هو فقط لا يعطيك الفرصة للتخمين».
«ماذا عن الموج، ألا يمكنه مساعدتك في التخمين؟» سألت.
«ربما، لكني لا أحب ذلك».
«والسبب»؟
«في الحقيقة أنا لا أجتهد كي أحصل على التخمين، أفضل أن يكون ذلك من غير قصد، مصادفة، مثل اللحظة الذي تعود فيها الكهرباء الى سلك ما، فتشعر فجأة أن مصباحاً شديد العتمة في ذاكرتك قد أضاء الآن، لتلك اللحظة مكانتها الخاصة في قلبي… كما لو أن شُهباً تمرّ فوقي حينها فتؤكد لي بأن تخميني على صواب.
ألقت يقين قنينة الماء في القمامة، تابعت «مع ذلك، وإن كنت اشعر بإنجاز خفيف يربت فوق كتفي عندما أنجح في تفسير كلامهم، إلا أنني لم أكن سعيدة دائماً، أنت تعرف... أن ينجحوا في توصيل أفكارهم، هذا يعني أنهم يكبرون».
وما الضير في ذلك، تحبينهم أطفالاً للأبد»؟
«بالضبط، أطفال للأبد»
«كما البحر»؟ سألت.
«كما البحر، أجل... أنت تفهمني الآن».
نعم أنا أفهمك لأن ليس باستطاعتي ألا أفهمك، أنا أكثر من يفهمك في هذا العالم، وفهمت لماذا نحن هنا الآن، فحين تُتخم الذاكرة بالشوق تحتاج إلى بعض اللياقة، ذلك النوع من اللياقة التي تشركيني فيها الآن، أحسست بغصة، لم يكن بإمكاني مقاومة البكاء، إن يقين لا تنسى أبداً، ثلاثون عاماً مرت لكنها لا تنسى، كما لو أن البحر قد ابتلعه البارحة.