مرّة أخرى يحاول الإرهاب أن يجد له موطئ قدم في تونس، لكن هيهات... فتونس تظلّ حصنا منيعا أمام هذا المشروع بفضل ما أُوتِيَ شعبُها من وطنيّة، وجيشُها من حَمِيَّةٍ، وأمنُها من صدق نيّة في مكافحة هذه الشرذمة الضالة المضلّة. نعم لقد مثّلت الأحداث الأخيرة في مدينة بنقردان (جنوب تونس)، وما تلاها من هبّة شعبيّة في كامل أرجاء الوطن صورة أخرى لشعب رافض للمشروع الداعشي، محبّ للسلام، شعب يقدّس الحياة، ويعتبر السلام سلوكا والتزاما عميق الجذور بمبادئ الحرية والتضامن، شعب بُنيَت في عقول أبنائه حصون السلام، فوقف سدًّا منيعًا للإرهاب، فكان مرة أخرى عَلَمًا من أعلام السلام.

يرى العديد من المحلّلين أنّ ليبيا هي كلمة السرّ وراء استقواء الجماعات الإرهابيّة، وعلى رأسها داعش داخل دول الجوار الليبي؛ فقد وجدت الجماعات الإرهابيّة المال والتدريب في ليبيا. ولئن كان من المنتظر أن تقع مثل هذه العمليات على التراب التونسي وخاصة في الجنوب منه، فإنّ الغارة الأميركية الأخيرة، والتي استهدفت مسلّحين لِما يُعرَفُ بـ (تنظيم الدولة) في مدينة صبراتة الليبية قد سرّعت الأحداث في مدينة بنقردان التي تقع على خط التماس مباشرة بين حدود البلدين.

إنّ ما حدث يومي (7و8 مارس/ آذار2016) لم يكن مجرد عملية عسكرية وأمنية ظرفية، بقدر ما هو جزء من خطة حربيّة ميدانيّة؛ إذْ انتقل تنظيم داعش إلى درجة متقدمة من خلال تكثيف جهوده للفتك بمدينة بنقردان وتحويلها إلى إمارة أو قاعدة لتنفيذ خطة التوسّع الترابي، فالهيمنة على بقية البلاد، ظنّا منه أنه بهذه المحاولة سيجد تعاطفاً من أهالي المدينة، الذين عانوا التهميش والفقر طيلة حكم الرئيس المخلوع، والذين سبق لهم أن تمرّدوا عليه قبل سنتين من هروبه. لكن هيهات ثمّ هيهات؛ فعلى رغم بقاء هذه المدينة الحدوديّة المهمّة مهمَّشةً طيلةَ عقود كغيرها من مدن الشريط الحدوديّ الجنوبيّ والغربيّ لغياب سياسة تنمويّة عادلة وحقيقيّة، فإنّها بأهلها الشرفاء لم تمكّن العدوّ من تحقيق ما كان يحلم به: حاضنة للدواعش، أو تمرّدا، أو حتّى مجرّد تعاطف.

وتأتي هذه العملية الجبانة اليائسة مع اقتراب لحظة تنفيذ الحلف الأطلسي ضرباته الجوية على مواقع الدواعش في ليبيا، لذلك هرول التنظيم لتنفيذ خطته في الجنوب التونسي من خلال هجومه المفاجئ على الثكنة والمراكز الأمنية ومقر المعتمدية والمستشفى في محاولة لكسر هيبة الدولة، والسيطرة على مراكز السيادة، والاستيلاء على الأسلحة، ورفع علم التنظيم فوق هذه المقرات، ومن ثمّ فتح الحدود مع ليبيا لمزيد دخول الدواعش إلى تونس، وتحريك ما تبقى لديهم من خلايا نائمة في بعض الأحياء الشعبية، أو المتحصنين بالجبال والذين يسقطون يوما بعد يوم في أيدي رجال الأمن والعسكريين.

وعلى رغم أنّ البلاد شهدت هجمات دامية وأحيانا ضربات موجعة ولاسيما في صفوف العسكريين، فإنّ هذا الهجوم يعتبر غير مسبوق، بل لعلّه الأول من نوعه الذي يخوض فيه الجيش التونسي ضدّ جماعات مسلّحة معركة شوارع منذ تصاعد وتيرة عمليات مكافحة الإرهاب قبل خمس سنوات وخاصة أن الهدف من العملية هو السيطرة على مراكز السيادة ما يستحضر إلى الأذهان نماذج مماثلة في العراق وسورية وليبيا.

وفي هذه المناسبة، كما في سابقاتها، أثبت الجيش التونسي أنّه، وإن لم يكن أقوى الجيوش العربيّة من حيث العتاد والتجهيز، فهو دون شكّ من أفضلها استعدادا لحروب الشوارع وأقدرها على مواجهة الإرهاب؛ فبالإضافة إلى حسن الاستعداد والتدريب يكتسب هذا الجيش الوطني خبرات قتالية مهمّة للغاية إثر كل مواجهة، ويراكم رصيده من الخبرات العسكرية الميدانية في مواجهة التهديدات الإرهابية. ويحق للتونسيين أن يفخروا بهذا الجيش الذي ظل محافظا على عقيدته منذ تأسس؛ فلم تجتذبه أطماع الاستيلاء على السلطة إثر هروب الرئيس المخلوع، وقد كان ذلك في متناوله، ولم تراوده فكرة استغلال الأزمة السياسية في 2013، بل ظل محافظا على دوره الحياديّ يحظى بحب الشعب وتقديره.

ذلك الشعب الذي ضرب أروع الأمثلة في الدفاع عن الوطن وإسناد العسكريين والأمنيين في ملحمة بنقردان؛ فقد فاق ما تناقلته وسائل الإعلام من مواقف وأحداث مستوى الخيال؛ فها هي الأمّ تشيّع ابنها العسكريّ الشهيد بالزغاريد عريسا لتونس، أيّام قليلة قبل حفل زفافه، وأيام قليلة قبل الاحتفال بالذكرى 60 لاستقلال البلاد، وها هو الأب يفدي وطنه بابنه، ولا أحد ينسى المدنيين العزّل الذين كانوا يحمون ظهور العسكريين بأجسادهم ويرددون النشيد الوطنيّ ويحفّزون العسكريين والأمنيين لمواجهة الإرهاب مؤكدين أنهم جسد واحد ضد هذه الموجة الغريبة عن الديار التونسيّة، ولقد شوهد ذلك المواطن ابن الثلاثين عاما يتقدّم في اتجاه المنزل المحاصر والذي يتحصّن فيه الإرهابيون رافعا صوته بالنشيد الوطنيّ «نموت نموت ويحيا الوطن» لحظات قبل أن يهوي على الأرض شهيدا مخلفا وراءه زوجة وابنين في ربيع العمر.

بل ها هم أهالي بنقردان يشيعون شهداءهم في ألوف مؤلّفة رافعين أعلام البلاد مرددين النشيد الوطني مؤكّدين، أن الإرهاب لا يمكن أن يجد له حاضنة بينهم، وها هي كل المدارس تقف يوم الثلثاء الماضي في الطابور الصباحي وقفة إجلال وتقدير لأرواح الشهداء بقراءة الفاتحة على أرواحهم، ثمّ بتنظيم فعاليات على امتداد الأسبوع الماضي لمكافحة الإرهاب وصدّ تسرّبه للعقول. وها هي جلّ المحافظات تنظم فعاليات شعبية مناهضة للإرهاب داعمة للسلم والأمن الاجتماعيين ليتأكّد الجميع من مدى تلاحم النسيج الاجتماعي التونسي بمختلف أطيافه الفكرية والإيديولوجية حين يتعلّق الأمر بحرمة الوطن والعلم.

وأخيرا لا يسعني إلاّ أن أستحضر رأي الملك الحسن الثاني (رحمه الله) ملك المملكة المغربية الشقيقة حين سئل عن استقرار تونس قبل 35 سنة، وتحديدا على إثر أحداث قفصة الشهيرة، فأثنى الملك في هذا الحوار على وحدة الشعب التونسي، مؤكدا أن الدولة التونسية «لا يمكن أن تنهار؛ لأن تونس هي الشعب ولا يمكن زعزعة استقرار شعب، ولأن شعبها مثقف ومتماسك». وتابع الحسن الثاني، أن «الاستقرار في تونس لا يمكن أن يتزحزح، وقد يصاب النظام السياسي بعدم الاستقرار لفترة سنوات، لكن تونس ستظل مستقرة ولن تهتز» وقال أيضاً: «لو بقي إنسان واحد في تونس، فتونس باقية، ولا يمكن القضاء عليها إلا باستعمال قنبلة نووية أو عدة قنابل نوويّة».