خَلُد اسم الكاتب الشامي من أصل كردي خير الدين الزركلي (1893 - 1976م) بموسوعته الشهيرة «الأعلام»، والذي جمع فيه نحو خمسة عشر ألف ترجمة، من العصر الجاهلي حتى العام 1975 (1395هـ)؛ بما جعله صاحب مدرسة معاصرة مستقلة في فن التراجم، حتى لقد صارت صيغة «أعلام الزركلي» من الصيغ الأكثر ذيوعاً في الكتابات والدراسات المعنية بالتراجم وسير الشخصيات.
وقصة حياة الزركلي واحدة من أروع قصص النجاح والمثابرة في الربع الأول في النصف الأول من القرن الماضي، عندما كانت الصحافة العربية تحبو في مراحل طفولتها الأولى.
كان شابّاً يتطلع إلى إصابة النجاح الإعلامي، وقد تعلّق قلبه بالصحافة والأدب وافتتن بالتاريخ، وساقته الأقدار إلى العمل مع ملك الحجاز الشريف الحسين وأبنائه ثم تدور الدوائر وتكرّ سبحة الأيام ليجد نفسه يعمل مع الحكم الجديد في الحجاز مع الملك عبدالعزيز آل سعود هذه المرة، وفي كلا العهدين حظي الرجل بحفاوة وتقدير رسميين وتقلّد مناصب يحسده عليها طلاب الدنيا وأهل الفكر معاً.
لم يحب الزركلي الوظيفة الرسمية أبداً؛ لكنه اضطر إليها اضطراراً، لم يطلبها بقدر ما طلبته في وقت كانت فيه الدولة الفتية تبحث عن كوادر عربية متعلمة تسدّ حاجتها الإدارية للنهوض بأعباء النهوض، وكان يعتقد أن همومه الثقافية وتطلعاته أكبر من أن تحدّها قيود وظيفية تقايضه المال بالفراغ والعطالة، من هنا ظل شغفه بالكتابة متقداً في كل مراحل عمره، وفي سنوات العمل السياسي والنضال في ركب الثورة العربية حدث أن حُكم عليه من قبل الحكم الفرنسي الذي كان يجثم فوق أرضه بالإعدام غيابياً مرتين لكنه أفلت من حبل المشنقة في كلا الحالين، قبل أن ييأس من السياسة منصرفاً كليّاً إلى مشاريعه الثقافية، والثقافة كثيراً ما تكون المآل الذي ينتهي إليه الممسوسون بهموم التغيير ويقضون في جنباتها بقية حياتهم، معوضين بذلك عن هزائمهم وخساراتهم في ذاك المعترك البغيض (السياسة).
وسأتحدث عن الزركلي من زاوية أهم أثر علمي له وهو موسوعة (الأعلام)، وما يعنيني في هذا الكتاب هو إبراز الجانب المتعلق بأعلام البحرين الذين ساهم الزركلي أجمل مساهمة في التعريف بهم في العالم العربي بعيداً عن الاعتبارات المذهبية الضيقة، وذلك زمن العمالقة من أصحاب النفوس المتجردة للعلم، تلك النفوس الكبيرة صدقاً وحقّاً.
ترجم الزركلي لعشرات الشعراء والفقهاء والمؤلفين من البحرين في قرون متباعدة، لا جديد فيما كتبه الزركلي مما هو مذكور فعلاً في المصادر التي اعتمد عليها واستقى منها مادته العلمية وهو يكتب عن أعلام البحرين في القرون السالفة؛ فقد كانت مصادر الزركلي في هذا المجال محدودة، أبرزها: (أمل الآمل) لمحمد بن الحسن العاملي (ت 1693)، و(سلافة العصر) لابن معصوم المدني (ت 1708)، و(كشف الحجب والأستار) للسيد إعجاز الكنتوري (ت1825)، و(روضات الجنات) للسيد محمد باقر الخوانساري (ت 1895)، و(أنوار البدرين) للشيخ علي البلادي (ت 1922)، و(الذريعة) للشيخ آغا بزرك الطهراني (ت 1970)، و(شهداء الفضيلة) للشيخ عبدالحسين الأميني (ت 1970)، و(أحسن الوديعة) لمهدي الأصفهاني الكاظمي (ت 1971). كما اعتمد على المصادر الاسلامية القديمة وأبرزها (تاريخ الطبري) و(تاريخ ابن الاثير).
أهمية عمل الزركلي أنه صنع معجماً عربيّاً شاملاً، صيغ بلغة علمية وقورة، وأسلوب ونَفس معاصر وموحد، لغة علمية تستبعد نهائيّاً عبارات المديح الرائجة في كتب القدماء والتي لا تقول شيئاً محدداً، معجم صنعه الزركلي كلمة كلمة، وتعهد صنيعه بالعناية والتوسعة، وسدّ الثغرات، «يسهر الليل ويلحق به النهار بين خضم المصادر وأكوام الفهارس، ومجموعة الرسوم والمصوّرات إلى أن استوى إلى القمة من أعمال المعاصرين صرحاً ليس كمثله صرح»، كما يقول العلاونة في كتابه الشيق «خير الدين الزركلي دراسة وتوثيق» الصادر عن دارة الملك عبدالعزيز.
لقد اعتمد الزركلي منهجاً موحداً في عمله، لكنه قد يطيل في بعض تراجم بعض الأعلام الذين عرفهم أو لم يجد لهم ترجمة مستوفاة فيما كتب المتقدمون والمتأخرون، ويجلو الغموض في بعض التراجم. ويصف خط المترجم جودة ورداءة، ويذكر اعتناءه بجمع الكتب، وفقره، وغناه، وحالته الاجتماعية، ويربط بين مترجم وآخر من جهة القربى، ويثبت صور المعاصرين إذا توافرت لديه. ويثبت أيضا الصور الرمزية لمن لم يدركهم التصوير الفوتوغرافي، وكذلك خطوطهم التي يعدّها «فلذًا من أرواح أصحابها أبدية الحياة، يكمن فيها من معاني النفوس ما لا تعرب عنه صور الأجسام».
لقد أفاد صاحب الأعلام ممن سبقه وأثّر تأثيراً كبيراً على من لحقه من المهتمين بهذا المجال الأدبي والتاريخي، وهذا ما نترك الحديث فيه لمناسبة أخرى أتمنى أن تكون قريبة.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4938 - الإثنين 14 مارس 2016م الموافق 05 جمادى الآخرة 1437هـ