نشر «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية» (CSIS، مقالاً بعنوان «إغواء الآيدلوجيا»، للباحث جون آلترمان، تناول فيه الحرب المعلنة على تنظيم «داعش»، من حيث بواعثها وما يمكن أن تؤول إليه، من خلال معرفته بقضايا الشرق الأوسط.
يستهل آلترمان حديثه بالإشارة إلى تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، باعتباره حركةً يُفترض أنها دينية، لكن ما استطاعت أن تجذبه إليها هذه «الدولة الإسلامية» هو الكثير من الخطاة والعصاة، أكثر من القديسين.
آلترمان يعتبر الحصول على العضوية الكاملة في هذه الدولة ما يزال أمراً محيّراً، حيث تضم صفوفها أشخاصاً من عتاة مهرّبي المخدرات، وصغار البلطجية، والنشالين والسراق. ومن الجانب الآخر تضم بين داعميها معاهد دينية تمثل لها مصادر دائمة للتجنيد وبعض مشايخ الدين الصغار.
هذا هو الخليط الذي صعد بآيدلوجية «داعش» القتالية، والتي استخدمها التنظيم لتبرير الأعمال الوحشية التي ارتكبها. ومهاجمة هذه الآيدلوجية من قبل العديد من الحكومات أسهل من مهاجمة الأسباب الحقيقية التي تسهم في التجنيد: الحرمان والتمييز الحاد وسوء الحكم. ورغم أنها تبدو نوعاً من الحركة «المسيحانية» (نسبة للمسيح) التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً خلال ألف عام، فإن «داعش» مجرد جماعة متمردة كلاسيكية، فهي تستغل الفراغ الذي لا تستطيع الحكومات الضعيفة ملأه، وتحكم بواسطة تخويف السكان وإرعاب من يُحتمل معارضتهم.
لقد نشأت 180 حركة تمرد منذ الحرب العالمية الثانية في العالم، ويوجد منها الآن 35، لكن ما يميّز «داعش» عنها أمران: الأول استعدادها بل ورغبتها للقتال عالمياً، بعدما استوعبت دروس «القاعدة»، باستخدام خلايا صغيرة ضد أهداف «ناعمة»، للحصول على اهتمام عالمي كبير. وهذه الاستراتيجية تحتاج فقط إلى موارد بسيطة وعدد صغير جداً من المقاتلين. أما الأمر الثاني فهو التركيز على التجنيد عالمياً. وأغلب حركات التمرد كانت تعبّر عن ظاهرة محلية، وتقاتل لأهداف داخلية، بينما انطلقت «داعش» من العراق وسورية إلى الخارج، مستفيدةً مما بنته «القاعدة» من قدرة على توحيد الأنصار عالمياً. ومع ذلك فإن «داعش» لا تبدو مبتكرةً في هذا المجال كما يظهر للوهلة الأولى، فهي تغري الشباب في المنطقة من خلال قدرتها على تحويل الشعور بالكبت والضجر إلى ركوب موجة المغامرة. بل إن أحد أهم أدوات تجنيد «داعش» في العالم العربي هو خبرات أعضائها في الخدمات الأمنية قبل الالتحاق بالحركة. والاعتقالات والعنف وعدم احترام الإنسان، كلها تخلق الاستعداد للمشاركة مع «داعش».
ويلعب الشعور بالإذلال لقلة فرص العمل وطول فترات البطالة، (وهناك عدد كبير من الحالات تعاني من أمراض عقلية)، دوراً في الالتحاق بهذا التنظيم. كما يلعب ضعف الروابط العائلية دوراً في إضعاف ارتباطهم بالمجتمع، إلى جانب ما تمثله مشاركة الأصدقاء والأقارب في القتال من بديل اجتماعي جذّاب للانتماء لهذه الجماعة. ومعرفة أبعاد هذه المشاكل لا يتطلب جهود سنوات فحسب، بل تعاون الحكومات نفسها التي لا تميل عادةً إلى مخالفة خبراتها القديمة. وإصلاح القوى الأمنية صعبٌ جداً، ليس فقط لحاجته إلى تغيير السلوك البشري بنحو مختلف، بل لأن العاملين في هذه القطاعات ينظرون إلى ذلك باعتباره تهوراً، ويخشون مما يمكن أن يترتب عليه.
التحديات الاقتصادية ليست أقل أهميةً من ذلك. وإذا كانت حكومات الدول المتقدمة بذلت جهوداً لإصلاح الاقتصاد لأكثر من نصف قرن ولكنها خرجت بنتائج متباينة، فإن جهود حكومات الشرق الأوسط أسفرت عن قطاع خاص ضعيف، وقطاع عام مترهل بالوظائف العامة، أسهما معاً في زيادة قوة الدولة. وفي الوقت نفسه، أدخلت التكنولوجيا الحديثة العنف من كل نوع إلى غرف النوم، وإثارة الغضب، ووضع قيمة النجاح كأولوية قصوى... وكلّ ذلك ساهم في تمهيد الأرضية لخلق تلك «الأجندة المرعبة».
بالنسبة للكثير من الحكومات، كانت تحدوها الرغبة الشديدة في التركيز على المعركة الآيدلوجية لمواجهة «التطرف العنيف»، لكن الجهود التي أعلنتها، جعلت الآيدلوجية جزءاً من المشكلة بدل أن تكون جزءاً من الحل، فأصبحت قوى الأمن طليقة اليد لعمل ما تريد، بينما يؤكد الدبلوماسيون أن القوى الغربية تسند الحكومات. وهكذا تم عقد الكثير من المؤتمرات، وألقيت الكثير من الخطب، بينما كان الواقع يتطلب إجراء تغييرات أساسية على الأرض.
خطة مواجهة التطرف والإجراءات التي اتخذتها الحكومات، عزّزت من سلطتها على المؤسسة الدينية، وجعل منها أداةً قويةً لفرض الطاعة والإذعان. وفي هذا السياق، كان من السهل دمغ أي «داعية» منشق بالخيانة، وهو ما جعل رجال الدين يصطفون إلى جانب السلطات.
الحكومات أصرت على أن الرد على التطرف ليس «اللبرلة»، وإنما التمسك بالتقاليد (الارثوذكسية)، حيث تصبح الحكومات مع أنصارها من رجال الدين، الحاكم والمنفّذ معاً.
إن اللجوء إلى المقاربة الآيدلوجية لم يكن فاعلاً في التقليل من جاذبية الحركات «الجهادية» في أعين الشباب، الذي كان يعيش في وسطٍ من الغضب والمرارة، فيما ستبقى أجزاء من هذه الحركة «الجهادية» تسعى لتقويض هذه الأنظمة وتدميرها، والمؤتمرات لن تنهيهم كما لن تنهي خصومهم من الحكومات.
يختم الباحث جون آلترمان مقاله بالقول إن معرفة مشكلة التطرف العنيف، تتطلب طرقاً توصل إلى ما وراء الكلمات والآيدلوجيات، كما تتطلب جهوداً تتجاوز باراك أوباما والرئيس الذي سيخلفه في البيت الأبيض.
العدد 4938 - الإثنين 14 مارس 2016م الموافق 05 جمادى الآخرة 1437هـ