خلال مشاركتي في معرض الكتاب بمسقط عاصمة سلطنة عمان، أتيحت لي فرصة بالصدفة لحضور مجلس رجل الأعمال المثقف يوسف الخنجي، ويسمونها في عمان «سبلة» حيث انتدى فيها مدير مكتب مركز دراسات الخليج في كامبردج سابقاً ومدير برنامج الدراسات العليا في الشئون الخليجية بجامعة قطر حالياً الاقتصادي عبدالله باعبود.
باعبود قدم عرضاً للأزمة النفطية الحالية التي عصفت بالدول المصدرة للنفط، وخصوصاً دول الخليج وعزاها إلى عدة أسباب أهمها زيادة العرض على الطلب، والركود الاقتصادي لدول كبرى مثل الصين وأوروبا، ومنافسة مصادر أخرى للوقود مثل النفط الصخري والطاقة مثل الشمس والنووي والرياح. ومما يفاقم من تبعات الأزمة النفطية هو أن المنطقة تشهد حروباً واضطرابات وحملات أمنية ضد ما يعرف بالمنظمات التكفيرية والمتطرفة.
ورجح أن تستمر هذه الأزمة لسنوات طوال، وألا تعود أسعار النفط لما كانت عليه بل تستقر حول 50 دولاراً للبرميل، ولكن بشرط اتفاق شامل ما بين الدول المصدرة للنفط داخل «الأوبك» وخارجها، وهذا يتطلب اتفاقاً سياسياً أوسع نطاقاً فيما بين الدول المشتبكة، وخصوصاً أميركا وروسيا والسعودية وإيران. ونبّه إلى اعتماد اقتصاديات دول مجلس التعاون على صادراتها من النفط والذي يشكل ما بين 40 في المئة و50 في المئة من الناتج الوطني وما بين 70 في المئة و80 في المئة من موارد الدولة.
وعرض باعبود التقلبات في صناعة النفط حيث تميزت أسعار النفط بالتقلب، ولكن هذه أول مرة تكون فيها الأزمة مثل هذه الخطورة، وصعوبة رجوع الأسعار إلى ما كانت عليه. ولاحظ أن الحروب المحلية أو الإقليمية تسببت في ارتفاع أسعار النفط في السابق؛ لكنها هذه المرة وعلى رغم اتساعها فإنها على العكس أسهمت في تدهورها. ونوه إلى أن «الأوبك» فقدت القدرة في السيطرة على نظام حصص التصدير، وسقف الإنتاج والذي مكنها سابقاً من ضبط الأسعار والحد من التدهور، حيث هناك ما يزيد على 2 مليون برميل فائض عن الطلب معروضة في الأسواق، ويجرى تخزينها في مكامن جوفيه، أو خزانات أو ناقلات تجوب البحار تحت الطلب، وذكر أحدهم أن هناك ما يزيد على تريليون برميل مخزن لدى الدول الكبرى المستهلكة وخصوصاً الولايات المتحدة بتصرف منظمة الطاقة الدولية، وحذر باعبود من أن لا حلول جاهزة لدى دول المجلس وأن الحلول المطروحة حالياً حلول تقليدية قد تسهم في حل مشكلة العجوزات في الموازنات الحكومية، لكنها لا تقدم حلولاً بعيدة المدى، في تحويل الاقتصاديات الخليجية من الاعتماد المفرط على النفط، وتجاوز الركود والتضخم في ضوء انكماش الاقتصاد. أما الحلول المطروحة فهي الاقتراض الدولي والمحلي وتقدر الملاءة المالية لبنوك المنطقة بـ 1.2 تريليون دولار وهذه لها سلبياتها في شحة السيولة من البنوك المحلية، وبالتالي عدم توافرها لتمويل نشاطات اقتصادية، والديون المترتبة بسبب الاقتراض السيادي الخارجي وخصوصاً أمام هبوط التصنيف الائتماني إلى (BBB) حالياً أو الخضوع لشروط صندوق النقد الدولي إذا ما أريد الاقتراض من المؤسسات الدولية والخيار الثاني هو السحب من الصناديق السيادية، والاستثمارات السيادية، أو السحب من احتياطات البنوك المركزية، وقد يتسبب ذلك في هبوط سعر العملة، وبالمقابل هناك توجه للحد من النفقات الحكومية من خلال تخفيض الإنفاق وسياسة التقشف، وتحجيم بيروقراطية الدولة، بدمج وزارات وهيئات وغيرها والتقاعد المبكر، وإيقاف مشاريع غير حيوية.
وأما الجانب الثالث فيتمثل بوضع حد لكثير من الخدمات المجانية، ومجانية الخدمات الحيوية مثل التعليم والصحة، بفرض ضرائب تحت مسمى رسوم، ومنها ضريبة القيمة المضافة لدول مجلس التعاون الخليجي، وطرح باعبود وجهاً مهماً للأزمة وهو أن نظام دول المجلس الاقتصادي هو رأسمالية هجين ما بين الرأسمالية الحرة ورأسمالية الدولة، والبعض يسميها غنائمية أو ما بعد الريعية وقد ترتب عليها كون القطاع الخاص معتمداً كلياً على الدولة ومشاريعها وإنفاقها.
وانتقد سياسة الاسترضاء ومعالجة الاحتجاجات الأهلية بالتوسع في التوظيف الحكومي مما يترتب عليه مزيد من ترهل القطاع الحكومي والذي يعاني أصلاً من التضخم وعدم الكفاءة، ودعا بدلاً من ذلك إلى الإبداع في خلق نشاطات اقتصادية، وفرص عمل خاصة جديدة، وقدم باعبود أمثلة دول كانت متخلفة عنا كثيراً، وتفتقر إلى الموارد الطبيعية ومنها النفطية مثل سنغافورة وماليزيا؛ ولكنها نجحت من خلال الاعتماد على العنصر البشري وتطويره، وكفاءة الإدارة الرسمية، والإبداع في التحول إلى اقتصاديات ناجحة وتنمية مستدامة، وهو ما فشلت فيه دول مجلس التعاون على رغم النمو السريع وكونها من أنجح الاقتصاديات العربية.
وقد فتح باب النقاش حيث أدلى عدد من المختصين الاقتصاديين وموظفين مختصين وأرباب عمل نساءً ورجالاً في طرح أسئلة وتعليقات مهمة أغنت الحوار فقد طرح عدد من المشاركين ضرورة الإصلاح الشامل كدول منفردة ولمؤسسة مجلس التعاون سياسياً واقتصادياً وإدارياً ومجتمعياً. وهنا طرح البعض أن دول المجلس لم تعترف حتى الآن بوجود الأزمة، وإن اعترفت بها شكلاً، فإنها تتعاطى معها بالوسائل القديمة ذاتها ومن قبل المسئولين ذاتهم، أي المعالجة النقدية المالية فقط في ظل غياب تام لمجلس التعاون الخليجي والذي لم يجتمع وزراء المالية حتى. وفي الوقت الذي أكد فيه البعض أن لا حلول فردية لدول المجلس بل حل شامل،
رد البعض أن وضعية المجلس الحالية لا تؤهله لذلك، وأن على سلطنة عمان مثلاً أن تبادر لحل أزمتها وألا تعول على المجلس بل تستثمر علاقاتها الإقليمية والدولية الجيدة، وسمعتها الحسنه بالاستقرار، وموقعها الممتاز المطل على المحيط الهندي والخليج، والثروات المعدنية والسمكية والزراعية، لتنطلق في معالجة الأزمة. لكنهم في الوقت ذاته أكدوا أن ذلك يتطلب رؤية واضحة لحل الأزمة وطرح البديل التنموي المنتج المستمر، والتي تتمخض عن حوار جاد ما بين الدول والقطاع الخاص والخبراء، بحيث تكون هناك خطة واضحة وآلية للتنفيذ خلال مراحل مزمنة، وتحمل الجميع تبعاتها وأعبائها كلاً بحسب طاقته. وأعتقد أن هذا هو أيضاً ما هو مطلوب لباقي دول المجلس، أما دور المجلس في تنسيق هذه الخطط والدعم المتبادل لدوله، فإن ذلك يتطلب تغييراً جوهرياً في عقيدة المجلس وآلياتها.
وهنا طرح عدد من المشاركين ضرورة تنشيط علاقات شعوب الخليج، وذلك من خلال تنشيط التبادل والتعاون فيما بين المنظمات الأهلية والخاصة، لأن ما بين الشعوب هو الأبقى. كما دعت بعض النخب الاقتصادية والأكاديمية إلى طرح البدائل والتصورات للتعاطي مع الأزمة والتي هي أكبر من أزمة نفط، بل أزمة المراوحة في ظل الدولة الريعية. لقد سعدت فعلاً برعاية رجال أعمال مثل يوسف خنجي لمثل هذه المنتديات المفيدة والجامعة.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 4935 - الجمعة 11 مارس 2016م الموافق 02 جمادى الآخرة 1437هـ