يبدو أن جانباً من قوَّة الكائن البشري يكمن في هشاشته أيضاً؛ وحتى جماليته. لولا الهشاشة لكان هذا العالم أثراً بعد عين. هل قلت: الهشاشة؟ نعم. هي قدرتنا على التراجع النبيل. أن نؤجِّل الكوارث التي نحن أكثر قدرة على تعميمها. الهشاشة هنا أن تترك لنفسك في الكتابة/ الشعر خصوصاً، العبور بك لحضور مسرحية، أو لعبور شارع مليء بالحتف. لابد من الهشاشة كي يأتي الشعر منسلخاً من الإدّعاء. الإدِّعاء من أكبر مفاسد العالم. ما علاقة الشاعر الجميل كريم رضي بكل ذلك؟ لا أحد يقول بهشاشته التي يذهب إليها المعنى في مباشرته المفرطة. هشاشته في انتباهه على مدار الوقت كي يميط الأذى عن الكلام أحياناً. لا يريد الشاعر النبوءة، يكفي ترتيب أن تكون رؤياه غير منظمة، وغير مضبوطة على ساعة وقته وزمنه. وإذا سلَّمنا برؤية الشاعر والصديق الجميل، العُماني عبدالله حبيب، وإن كانت بعيدة بعض الشيء «يملك الشرطي مفاتيح أكثر من تلك التي في حوزة اللص»، يملك الشاعر وهو متمرِّد على النبوءة مفاتيح أكثر من تلك التي يحملها الذين امتازوا بالنبوءات، أو كانت امتيازاً لهم. كريم رضي يفعل ذلك في كثير مما يكتب، تماساً مع النقد، أو توغُّلاً في الشعر.
هل يمكن نسيان «أحاديث صفية»؟ من يزعم أن نصاً بكل ذلك التوهُّج يحتاج إلى أن يكون مُرتهناً لشروط «المختبر» الذي نعرف، عليه أن يحكم إغلاق أبواب العالم عليه: عالمه على الأقل؛ لسبب بسيط وهو أن الأحاديث تلك استطاعت الإمساك بنا ونحن في حال تلبُّس بأكثر من فعل؛ لا الكلام/ الحديث فحسب، لصفية واحدة، لها امتداداتها التي لا تنتهي.
في اليمَام المكتنز الذي يقيس الفضاءات بوَلهِه وولعه وريشته لا بجناحيه فحسب. في العصور المُثقلة بالصبابات، المكتنزة بالهيام المفتوح على الاحتمال، والنوم مع الفقْد. خطى الأنبياء العاشقين لفرادة الإنسان، في حضور الأذى. للكُسالى الذين يذكِّروننا بضرورة الحياة في السعي. للأمهات الصغيرات، لا يكبر هذا العالم من دونهن. صفية الشمس الغارقة في الحنوِّ واللهفة والانتظار النبيل... الرحيم.
أنا يا صفية هذا الكلام/ رماني على حجر طيّب/ فركتْه العصور الحزينة/ بالزنجبيل وبالشهوات/ ليشرق في ظلمة الخلوات بسر حرام/ حجر بان في لحمه أثر/ من خطى الأنبياء الوحيدين/ لاذ به العاشقون الكُسالى/ مع الأمّهات الصغيرات/ قبل اكتناز اليمام/ أنا يا صفية شمس المنام...
في النصِّ الذي يطل علينا كابتعاد العيان يقنعنا رضي بالوفْرة والمؤونة التي تكفينا ريثما نحفظ درس الترحال عن بطن قلب. يستدرجنا في كثير من مدلولاته وشحّه وقلَّته إلى ما هو قريب مما همس به الصديق عبدالله حبيب للمرة الثانية: «أيها الحب الجديد: سأحبك أكثر حين تكون قديماً». لا بالمعنى الزمني الذي يجيء أو يمضي فيه الشعر، بل بالأثر والغبطة التي تترك رائحتها كلما أطلَّ حديث، وكلّما حضرت صفية؛ بكل إرثها وكنوزها التي تجعلنا أكثر وسامة، وأكثر قدرة على إقناع الحياة بأن تكون مفرطة في جَمالها حدَّ عجزنا عن احتمالها.
كريم رضي: مفاتيحك أكثر، وصفية هي الرهان!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4935 - الجمعة 11 مارس 2016م الموافق 02 جمادى الآخرة 1437هـ