أوضحنا في الحلقة السابقة أن التطور الذي حدث للجماعات التي سكنت على سواحل الخليج العربي منذ قرابة العام 3000 ق.م، كان مرتبطاً بالتغيرات الاجتماعية والسياسية التي حدثت في بلاد الرافدين؛ حيث حدث تغير ملحوظ أعطى حرية كبيرة للجماعات العرقية لتكوين جماعات منفصلة وبالتالي، أصبحت أكثر قدرة على تكوين دولاً مستقلة بذاتها. وتعتبر الفترة ما بين 3000 و2500 ق.م فترة نضج للجماعات العرقية التي بدأت تنفصل عن بلاد الرافدين وتأسس جماعات مستقلة تحكم نفسها بنفسها، ولكنها في الوقت نفسه، تحتفظ بعلاقات دبلوماسية مع القيادة المركزية في بلاد الرافدين. كذلك، أوضحنا في الحلقة السابقة، أن هناك عدداً من الباحثين، لا يرجحون أن البحرين كان بها جماعات حضرية ارتبطت بعلاقات تجارية أو دبلوماسية مع بلاد الرافدين (Potts 1983).
هذا، ويرجح عدد من الباحثين أن «دولة دلمون» بدأت مع تأسيس المستوطنة الأولى في موقع قلعة البحرين؛ حيث قامت مجموعة بسيطة من الأفراد بإنشاء مستوطنة صغيرة في موقع قلعة البحرين (تسمى أيضاً المدينة الأولى). وهذه المجموعة لم تكن حينها قادرة على تصنيع كل أدواتها ومستلزماتها، فقد اكتفت بتصنيع فخار بسيط خاص بها، وقامت بتعويض النقص عن طريق استيراد الفخار وبضائع أخرى من حضارة أم النار، التي نشأت على سواحل دولة الإمارات العربية وسلطنة عمان، وحضارة وادي الرافدين (Hojland 1993)، (Laursen 2009، 2011). وقد تم تحديد عمر أقدم طبقة آثارية في هذا الموقع عن طريق فخار بلاد الرافدين وفخار أم النار، وقد تم ترجيح أن تاريخ نشأة المدينة الأولى قرابة العام 2550 ق. م. (Hojlund and Andersen 1994، p. 141).
هذا لا يعني بالضرورة، أنه لا توجد مناطق استيطان أخرى في البحرين غير موقع قلعة البحرين؛ حيث عثر على دلائل آثارية تعود لحقبة زمنية أقدم من تاريخ المدينة الأولى في قلعة البحرين. وقد عثر على هذه الآثار في موقع الحجر وموقع معابد باربار، وفي قبور توجد في شرق قرية كرزكان، وقد ناقشنا جزءاً من هذه الآثار في سلسلة مقالات سابقة. هذه الآثار ربما ترجح وجود جماعات حضرية عاشت في البحرين قبل العام 2500 ق. م.، وكانت على علاقة، مباشرة أو غير مباشرة، مع بلاد الرافدين.
أقدم الفخاريات التي عثر عليها في البحرين
يتم تحديد زمن الاستيطان في منطقة ما، في الغالب، بدراسة الفخاريات التي يتم العثور عليها في المنطقة ومقارنته بفخاريات مشابهة لها في مناطق تمت دراستها. وأقدم فخار عثر عليه في البحرين هو فخار العُبيد وهو نوع من الفخار عثر عليه أول مرة في بلاد الرافدين والتي تعتبر بلد المنشأ لهذا الفخار. وقد بدأ ظهور فخار العبيد في البحرين في نهاية الألف الخامس قبل الميلاد، أي قرابة العام 4000 ق. م.؛ حيث وجدت هذه الكسر بشكل خاص في مستوطنات صيادي السمك في منطقة المرخ، بالقرب من رأس الجزائر، على الساحل الغربي للبحرين. كذلك، فقد عثر على هذا الفخار في موقع عين أم إجراي في كرزكان، على الساحل الغربي، وعثر عليه أيضاً في منطقة ثالثة تقع ما بين قريتي الدراز وباربار، على الساحل الشمالي للبحرين (Larsen 1983، appendix II).
هذا ويرجح عدد من الباحثين، اعتماداً على نتائج حديثة، أن تلك الجماعات التي استخدمت فخار العُبيد في البحرين ومناطق أخرى على سواحل الخليج العربي، أنها جماعات استوطنت المنطقة، وأقاموا بها، والأكثر من ذلك، أنه يرجح حدوث تطور محلي لهذه الجماعات في كل منطقة من المناطق التي تم استيطانها Frifelt 1989)، (Beech et. al. 2000. غير أنه، لا نمتلك تفاصيل كافية حول هذه الجماعات لحدوث فجوة تاريخية بعد الحقبة العُبيدية؛ حيث حدثت قطيعة بين الجنوب الرافدي وشرق الجزيرة العربية؛ وربما يعود ذلك لتغير الظروف المناخية التي أدت إلى أن تكون منطقة شرق الجزيرة العربية شبه خالية من السكان (Uerpmann 2003).
أما ثاني أقدم الفخاريات التي عثر عليها في البحرين فيعود تاريخها لما بعد العام 3000 ق. م.، أي بعد أن عادت العلاقات بين شرق الجزيرة العربية وبلاد الرافدين، وهذه الفخاريات تعتبر أنواعاً من الفخار الذي عرف باسم فخار جمدة نصر. هذا، وهناك فرق بين مسمى حقبة جمدة نصر والتي تحدد بالفترة الزمنية ما بين3200 و2900 ق. م.، ومسمى الفخار جمدة نصر، على رغم أن كلاهما يعرف بالاسم نفسه. حيث توجد أنواع من فخار جمدة نصر، فمنه أنواع خاصة بالحقبة نفسها المسماة جمدة نصر، ومنه نوع، تم التعارف عليه باسم جمدة نصر لكنه يعود لحقبة تاريخية أطول من حقبة جمدة نصر وبالتحديد يعود للحقبة 3000 – 2500 ق.م. وهذا النوع الأخير من الفخار عثر عليه في البحرين وفي العديد من المواقع الأثرية على سواحل الخليج العربي وخصوصاً في دولة الإمارات العربية وسلطنة عمان (Potts 1986).
فخار جمدة نصر في البحرين
عثر في البحرين على نوعين من الفخار الذي عرف باسم فخار جمدة نصر، الأول، عثر عليه في موقع معابد باربار، وذلك في الطبقة الآثارية السفلى التي تسبق طبقة المعبد الأول. وهي عبارة عن كسرة فخار تنتمي لنوع من الفخار الذي كان يصنع في حضارة الرافدين، وتنتمي للفترة المتأخرة من جمدة نصر والفترة الانتقالية إلى الأسرة القديمة الأولى (Mortensen 1971، ترجمة الخزاعي).
أما النوع الثاني من فخار جمدة نصر، فقد عثر عليه في قبر يقع شرق كرزكان. وقد عثر في هذا القبر على جرتين فخاريتين كاملتين، وهما تعودان للطراز الذي تم التعارف عليه باسم جمدة نصر والذي يعود للحقبة الزمنية 3000 – 2500 ق. م. (Potts 1986). هذا، وتمت دراسة هذا النوع من الفخار بصورة مفصلة، وتشير الدراسات إلى أن هذا الفخار تم تصنيعه في بلاد الرافدين، أي أنه فخار مستورد (Mery 2000، pp. 169 - 189). هذه النتائج تشير بوضوح لوجود علاقات تجارية، مباشرة أو غير مباشرة، بين البحرين وبلاد الرافدين.
يذكر أنه في القبر نفسه الذي عثر فيه على فخار جمدة نصر عثر فيه أيضاً على فخار محلي التصنيع. وتشير الدراسة التحليلية التي أجريت على هذا الفخار المحلي، إلى أنه الفخار صنع بالتقنية نفسها التي صنع بها فخار دلمون (Laursen 2013). كما يذكر أن طريقة صناعة الفخار تعتبر بصمة خاصة تدل على هوية من صنعه، وهذه النتائج تدل على امتداد في طريقة صناعة الفخار الدلموني لما قبل حضارة دلمون؛ ما يدل على وجود مستوطنات أوليه، سبقت المدن الدلمونية، وقد صنعت لنفسها فخاراً خاصاً بها، وبتقنية خاصة استمرت قرابة ألف عام، قبل أن يظهر فخار دلمون، بهويته المعروفة، وذلك قرابة العام 2200 ق. م.
الخلاصة، أنه عثر في البحرين على فخار مستورد من بلاد الرافدين ويعود تاريخه لما قبل العام 2500 ق. م.، بالإضافة لفخار محلي التصنيع يعود للحقبة نفسها؛ ما يشير لوجود جماعة حضرية استوطنت البحرين في تلك الحقبة، وكانت تصنع فخارها الخاص بها، كما أنها كانت تقوم باستيراد أنواع أخرى من الفخار من بلاد الرافدين. ولا تقف النتائج الآثارية لهذا الحد، فقد عثر في قبر آخر، يوجد في شرق كرزكان أيضاً، على فخار يعود لحضارة أم النار، ويعود تاريخه لفترة أقدم من الفترة المرجحة لتاريخ تأسيس دولة دلمون. كيف يمكن تفسير هذه النتائج الآثارية المتراكمة؟ هذا ما سنتناوله بالتفصيل في الحلقة القادمة.
تعالوا
في منطقة بوري يوجد اثار كثيرة وبعض الاطفال ياخذون الاثار ويلعبون بها ويرمون النفايات فيها الا يوجد احد مكلف بالعمل فيها