في لقاء مع صحافية دنماركية قادمة لتغطية أحداث منطقتنا في الكويت منذ يومين، بادرتني قائلة: «صار لي 25 عاماً أغطي الشرق الأوسط». نظرت إليها متسائلاً: «ما هي أعقد المراحل في هذه التغطية». فردت بلا تردد: «لم أرَ في حياتي المهنية وضعاً بتعقيد ما يقع اليوم في العالم العربي». ما يمر به العالم العربي هو الأصعب منذ عقود. في هذا المشهد يحاول النظام العربي الرسمي أن يستعيد ما كان قائماً قبل 2011.
لهذا يعيش لحظة «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، فهو يتوقع حشداً في كل معركة رابحة كانت أو خاسرة. لكن معظم المعارك في المرحلة القادمة خسائرها أكبر من نتائجها. إن إعلان حزب الله (على رغم كل الاختلافات معه في سورية) جماعة إرهابية يسهم في مزيد من الاستقطاب الإقليمي والفرز الشيعي السني في كل الإقليم. إن تصنيف الإرهاب لا يفيد مع أحزاب وتيارات لديها امتدادات شعبية بين قبائل أو طوائف. لقد دخل النظام العربي في حال استثناء وأزمات متداخلة، وهذا يتناقض مع حالة الربيع في 2011 عندما ساد حلم الحرية والديمقراطية والشراكة.
الواقع العربي يتمزق بين خطابات رئيسية ومتناقضة. فالخطاب الرسمي يتحدث بلغة تتميز باعتمادها على القوة العسكرية/ الأمنية. وتعتقد هذه المدرسة أنه بإمكانها أن تحول قوتها العسكرية لرأس مال سياسي ونفوذ حقيقي يحسم كل شيء. لكن هذا غير ممكن مثلا في اليمن كما تؤكد التجربة الأميركية في كل من أفغانستان والعراق، وكما ستؤكد التجربة الروسية في سورية، فهناك أبعاد كثيرة غير مرئية وخاصة في ظل ضعف القوة الناعمة ومحدودية السياسة والمقدرة على اكتشاف توازنات جديدة. عندما ينصب الجهد على الأمن والعسكرة تفشل السياسة ويموت الحل.
أما الخطاب الثاني فتتبناه قوى غير رسمية طابعها إصلاحي/ سلمي. هذه القوى تعاني الآن من التفكك بسبب ضعف تجربتها؛ ولكن أيضاً بسبب محدودية التجربة الديمقراطية العربية. هذا التيار العريض غير المنظم ينقسم إلى حقوقي وإسلامي سلمي. وبين هذه الفئة وخاصة الشبابية من كل الطوائف والفئات يقع حراك ضمني بعضه ثقافي وسياسي، هذه المجموعات والقوى الشبابية عادت تحت الأرض بسبب البيئة الأمنية والعسكرية الراهنة، لكنها ستعود للظهور في مرحلة لاحقة قد تأخذ سنوات، ستشكل قوتها القادمة استكمالاً لجانب مهم مما بدأ 2011.
أما الخطاب الثالث السائد في الساحة العربية والذي يزيد من تعقيد المشهد، فيتكون من فصائل سنية تصنف إرهابية. الأهم أن هذه الفئات، كتنظيم «داعش» و»القاعدة « وغيرهما في سورية والعراق، تتحدث باسم الإسلام ولديها أنصار في الشارع العربي وتتبنى العنف بصفته وسيلتها للتعبير وللتأثير. هذه الأطراف تسعى لمنافسة النظام العربي في الملعب الشرعي الديني الذي يستند إليه في شرعيته الدينية، وذلك لأنها تنهل فكرياً من الينبوع التاريخي والديني نفسه الذي يستمد قطاع من النظام العربي شرعيته منه.
في منطقتنا بيئة غزيرة لإنتاج التطرف، البطالة الكبيرة التي تصل في بعض الدول إلى 30 و40 في المئة بين الشباب كافية لصناعة حروب إضافية، يضاف إلى ذلك غلق الفرص السياسية أمام الشباب التي تحتاج لمناخ من الحريات. إن ضعف التعامل الحقوقي والإنساني على الصعيد العربي يزيد من العنف ومن عمق الأزمة.
لقد انفتح أفق الصراع في ظل غياب القناعة بين النخب السياسية العربية بضرورة الاعتراف بالتعددية أولاً والحقوق الأساسية ثانياً وإعادة الاعتبار لمبادئ العدالة الاجتماعية تمهيداً للقبول بمبادئ التداول السلمي على السلطة. لم تنضج الرؤى بين قوى السلم في منطقتنا. لهذا فالحروب كالحرب السورية والليبية واليمنية وحرب العراق مستمرة، والدولة الإسلامية من جهة والحوثيين من جهة أخرى أقوى مما نعتقد لأسباب سياسية وذاتية. يبدو أن ما قاله تشيرشيل في وصف الحرب العالمية الثانية ينطبق علينا: «الآن هذه ليست النهاية، وهي ليست بداية النهاية، لكن ربما هي نهاية البداية».
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 4934 - الخميس 10 مارس 2016م الموافق 01 جمادى الآخرة 1437هـ