لا يمكن الحديث عن نقلة في السينما الجادة (الأفلام القصيرة خصوصاً) في عُمان ودول الخليج، امتداداً إلى العالم العربي، من دون الوقوف على مشروع وتجربة الناقد السينمائي والشاعر والأكاديمي العماني عبدالله حبيب. تجربة لها امتداداتها في التوغل في المعرفة، ضمن مستوياتها المنهجية والصارمة من جهة، والالتفات والانشغال والشغف بعفوية وبساطة الأشياء في الحياة من حوله. هو أحد أبرز النقاد السينمائيين العرب أيضاً بذلك الوعي المتنوع، والمعرفة المتنوعة التي حازها.
لن تتناوله هذه المساحة ناقداً أو سينمائياً مهماً، بقدر ما ستضيء جانباً من ذلك التنوع والتعدد المعرفي الذي قبض عليه.
«تشظيات أشكال ومضامين... عنوان مبدئي في أحسن الأحوال وأسوئها»، الصادر في العام 2009، عن دار الانتشار العربي، فيه ذلك التنوع والتعدد في المعارف. فيه ذلك الذهاب العفوي للأشياء والمضامين البسيطة، لتتجلَّى لنا عميقة، أو هكذا يجب أن تكون. والذهاب إلى الأشياء والمضامين العميقة، لتتجلَّى لنا بسيطة، أو هكذا يجب أن تكون في الوقت نفسه.
هو كتاب معرفة مستوية ومنفتحة على الأشكال والمضامين بعين الشاعر السينمائي. سترى المَشَاهد وقد اقتحمت مساحتك وحيِّزك الخاص. أنت تقرأ لتراه. لتكون شريكاً معه في صورة... موقف حدث قبل سنوات، يجلبه لك طازجاً بكل التفاصيل التي تتيحها لك العدسة... الكاميراً لكن بشاعرية الرائي... بأداة المكتشف، وليس ذلك فحسب: بأداة العارف/ المشَّاء أيضاً!
كتاب يختصر فيه عوالم ووجوهاً وكلاماً وأصواتاً وألواناً ومواقف وأحوالاً وعناوين، إيغالاً في المضامين الكبيرة الشاسعة الواسعة الفارعة.
في السينما سيشركك في فضاء ما بعد فيلم أندريه تاركوفسكي «القربان»، حيث حوارٌ مشَّاءٌ بين أستاذ فلسفة ومسرح وعلم وجمال متقاعد (أليكساندر) وساعي بريد (أوتو) حول نيتشه في يوم كان يُفترض أنه اليوم الأخير في العالم، ما بعد الفيلم واللقطة، باستجلابه لتلك التداعيات التي تبدو شأناً شخصياً فيما هو يعني العالم.
هي نفسها الكتابة التي قال عنها بأنها أحد تجليات الشعر، في الشهادة التي قدَّمها في مطلع تسعينات القرن الماضي (1993)، والتي كانت استهلالاً لأمسية شعرية أقامها له اتحاد كتَّاب وأدباء الإمارات، فرع أبوظبي، وورد في الكتاب موضوع الاستعراض: «وبعدُ فإن الكتابة ليست إلا أحد تجليات الشعر، ولكنها ليست أصله، بل ربما كان مجرد التفكير في كتابة الشعر اعترافاً جَسُوراً بهشاشته أمام عنف الروح وغطرسته أمام توسلات اللغة؛ ذلك أن الشعر يوجد خاماً ووحشياً في الحياة قبل أن يدفع به الصيادون إلى شراك التعبير الذي هو - كما نعلم جميعاً - ليس أكثر من مِرْشَح تمثيلي أبعد ما يكون عن أصلية التجربة أو نقاء البوح».
ليست تجربة العامين وحدها، حين مارس التدريس في الفترة ما بين 2000 و 2002م في جامعة كاليفورنيا، وجامعة أوتاجو بنيوزيلندا، هي التي منحته كل هذا الزخم المعرفي، والقدرة الهائلة على الاستحواذ عليك، انتقالاً من فضاء إلى آخر أكبر وأوسع منه. ستقبض على شيء مما احترفه وأدَّاه في تلك المهنة تدريساً لمساقات جامعية متعددة وإن لم تبرح فضاء وعالم السينما الذي أصبح واحداً من أهم علاماته ونقَّاده في المنطقة وخارجها؛ حيث قام بتدريس «الاستشراق وما بعد الكولونياليَّة والسينما»، و «سينما العالم الثالث»، و «السينما والتغيير الاجتماعي»، و «الأنواع السينمائية» في جامعة كاليفورنيا وجامعة أوتاجو في نيوزلندا كما أشرنا بداية. عمَّق كل ذلك إحساسه بمسئولية أن يقرأ وكيف يقرأ ولمن، والمسئولية المضاعفة أكبر حين يصل الأمر إلى الكتابة. يحطِّم كيفيتها ولا يأبه بالصيَغ التي باتت شبه مفروضة في عالم اليوم. لنقل في عالم أن تقدِّم رؤية، وأن تكون منتبهاً لأثر تلك الرؤية، وألَّا تضجر كثيراً حين لا يكون لها أثر أساساً!
البصْمة... الخجل والخزي
في اليوميات التي امتلأ بها الكتاب لا يكتب حبيب عالمه المحدود والخاص. يكتب العالم الذي يتكرر كثيراً، ولكن قليلين هم من يستطيعون القبض عليه كما يجب، وليس ذلك فحسب. أن يملكوا القدرة على التعبير عنه من دون فذلكة أو تصنُّع أو مباهاة، أو ادِّعاء. أكثر ما يفسد هذا العالم: عالم الكتابة هو المرض بالإدِّعاء. ادِّعاء الحالة عدوى ليس بالضرورة أن تكون جميلة. قد تكون مُهلِكة من دون أن نعي مؤديات ذلك الهلاك.
يكتب يوم الجمعة (27 نوفمبر/ تشرين الثاني 1998)، أوستن، تكاس: «ظهراً في مبنى المصرف الفارِه، أمام نُضُد الصرَّافين المبتسمين على عجَل وبرود احترافيين فظيعين، وقف بجانبي عامل مكسيكي بثيابه الرثَّة المدهونة بما شاء الله من بُقَع وأصباغ ولطخات أسمنت. كان يبدو مثل عائلة كبيرة تقيم في غرفة صغيرة على وشك التهدُّم. مدَّ يده المُضمَّدة بالشاش المتسخ كثيراً ليبصم بإبهامه على الشيك (يا إلهي لماذا لا ترحم شخصاً مثلي مولوداً في قرية أميَّة من مشهد الأمية، هذا المتأصِّل في الذاكرة؟)، وفي نظرته الكسيرة وهو يبصم، في عصر ما بعد الحداثة هذا، خجل يكفي لخزي سبع أراضٍ وسبع سماوات. حقاً يا بول تسيلان: (فلتتحطَّم أقوى البوارج، على جبهة إنسان غريق)».
بتلك الانعطافة التي تشي بأن الذاكرة وقَّادة وحادَّة في حضورها الذي يستدعي واحداً من المشاهد التي تبدو عابرة، ولكنها ليست كذلك بقدرته على الاستحضار «flashback»، من دون أن يحدث مثل ذلك الانقطاع إلا في ما يبدو هامشاً على الحدث/ الكتابة، باستحضار مشهد القرية الأمية... ماضٍ... يدلق ضوءاً على الموقف نفسه، استجلاباً للشبيه، هناك بعيداً.
أوراق وأبحاث ودراسات معمَّقة له أيضاً يمكن الوقوف على اكتنازها في كتابه «مساءلات سينمائية»؛ علاوة على ترجمته كتاب «ملاحظات في السينماتوغرافيا» للسينمائي الفرنسي روبير بريسون.
لا فضل لفم على منقار!
يقودك السرد في اليوميات. تشدك الأفكار العميقة التي تبدو بسيطة لكنه يلغِّمها بدهشة في النهايات. أنت أمام راءٍ كأنه بؤرة العدسة التي يرى بها العالم. بتلك الشفافية التي تبدو جارحة في كثير من الأحيان، لكنك لن تتأوه لتجريحها وستكتفي بتنهيدة تحبُّها من دون شك.
يوم الجمعة (19 فبراير/ 1999)، أوستن، تكساس نقرأ الآتي: « ظهراً أبتاع طبق بيتزا من إحدى كافتيريات الجامعة. أستلقي أمام الكافتيريا، في حقل العشب في الهواء الطلْق (ومن نافل القول أن المرء لم يعد قادراً على رؤية عشب في أي مكان في العالم من دون أن يحضر والت وايتمَن في ذاكرته فوراً)، وأدعو الحمَامات تشاركني وجبة الغذاء. لا أحب رمي نتَف من الطعام إلى تلك الكائنات الجميلة الجائعة بالطريقة التصدُّقية والاستعلائية القبيحة التي باعثها لذة الفرْجة المتغطرسة، وليس بهجة الاشتراك والمشاركة؛ بل أفتح عبوَّة الأكل وأدعوها أن تشاركني الطعام من الطبق الكرتوني نفسه مباشرة؛ إذ لا فضل لفم على منقار فيما يخص الجوعى ولذلك ينبغي أن نأكل معاً».
في الانتحار
يرى في الانتحار مشروع حرية كبيرة «بمعنى أن يتمكَّن المرء من أن يأخذ تلابيب البدايات حتى نهايتها، أو النهايات حتى بدايتها، أي إلى نقطة الصمت التي ابتدأ وكان ينبغي أن يتوقف عندها السرد».
يتناول الصمت الآسر في فعل الانتحار نفسه، يستدعي نيتشه في كثير من رؤاه التي تبدو صادمة وعلى قطيعة مع العقل الذي يسيِّر المكان وبشر المكان. المكان الذي ينتمي له، لا المكان الذي تتداعى منه تفاصيل تلك اليوميات. «ينبغي أن يكون المرء ناضجاً تمام النضج للموت دوماً» بحسب رؤية نيتشه. تلك التجربة القاسية التي تتطلب كثيراً من الصبر والمعرفة والحنكة، بحسب حبيب، اقتراباً مما ذهب إليه رامبو ذات كتابة بقوله «كمن يزرع دمامل على وجهه ويربِّيها»!
وتتحدَّد رؤيته أكثر في أن الإنسان «لا ينتحر لأنه يكره الحياة، كما في سائد التُّرهات والخزعبلات - بالعكس: ينتحر المرء لفرط عشقه للحياة وقدسيتها فيه وتقديسه لها، لأنه لا يستطيع أن يستوعب أن الحياة، التي يفترض أن تكون متاحة، وفاتنة، وجميلة للجميع (بمن فيهم هو نفسه)، قد أصبحت كريهة إلى حد لا يطاق؛ وبهذا فإن إكرامه واحترامه لها يجبرانه على مغادرتها بكرامة (...)».
الكتاب مليء بالجنون العاقل. العقل المجنون أيضاً. تبدو الموضوعات عابرة في كثير من محطاتها، لكنك بمجرد أن تلج العوالم والكوابيس والمفارقات والغرائب التي يصفها حبيب صفاً، ليبدأ في تفكيكها وتناولها من حيث لا تحتسب، ستجد نفسك أمام أكثر وأبرع من راءٍ، حتى وهو يكتب كأن السينما ضالعة في كل ما يشبه الهوس ذاك، كما هي السينما هوسه وبيته الكبير والأثير.
1+1= 2
يتنقل بين اليوميات هنا وهناك. بعضها يؤرخ له، بعض آخر تم استجلابه من ذاكرة بعيدة، ومن زمن طاعن في الحكاية ومدلولاتها.
«(...) بحماسة حقيقية أو مفتعلة ردد التلاميذ الصغار مع الأستاذ بناء على طلبه، أن «1+1= 2». ولتأكيد الأمر أخذ الأستاذ يسأل عيِّنة عشوائية من التلاميذ: 1+1= كم؟، فيرد من وقع اختيار الأستاذ عليه أن 1+1= 2. وقد شاء حظه العاثر أن يختاره الأستاذ ضمن عيّنة التلاميذ التي ستؤكد البداهة الحسابية البسيطة، غير أن صاحبنا أجاب: 1+1= 1!، فذهل الأستاذ غاضباً بعد جهده الطويل، وقرَّع تلميذه قائلاً أن 1+1= 2 وليس 1. غير أن صاحبنا أشار بذراعه وسبّابته نحو الطائر الحاط على الشجرة قائلاً: «انظر يا أستاذ: جناح + جناح= طيراً واحداً؛ يعني 1+1= 1»!.
ضوء
عبدالله حبيب له عدد من الأفلام القصيرة المهمة التي قام بإخراجها، وحاز بعضها جوائز في مهرجانات وفعاليات مهمة، من بينها: «الحلم»، و«الرؤية»، و«التمثال»، و«الشاعر»؛ علاوة على عدد من الإصدارات الشعرية والقصصية، والأعمال المهمة التي انتخبها وقام بتعريبها، من دون أن ننسى روايته «أعشاب البحر».
من بين إصداراته «صورة معلقة على الليل: محاولات في السينما والشعر والسرد» العام 1993، «قشَّة البحر: في سرد بعض ما يتشبَّث» العام 1994، «ليليميَّات» العام 1994، «فراق بعده حتوف» العام 2004، إضافة إلى «رحيل»، و «مساءلات سينمائية».
له عضويات مهمة وعلى المستوى الدولي من بينها، حصوله في العام 1991 على عضوية مدى الحياة في جمعية المفتاح الذهبي الشرفية الوطنية الأميركية، وعضوية مدى الحياة في جمعية فاي بيتا دلتا للدارسين الأجانب، في الولايات المتحدة.
وإضاءة على تحصيله الأكاديمي نال الماجستير في الدراسات السينمائية والثقافية من جامعة تكساس العام 1999 والبكالوريوس في الفلسفة (تخصص رئيسي) والسينما (تخصص فرعي) من جامعة سان دييجو ستيت العام 1992.
من المهرجانات التي انتدب للتحكيم فيها: مهرجان أبوظبي السينمائي، العام 2007، ومهرجان الخليج السينمائي العام 2007، ومهرجان مسقط السينمائي، مسقط، العام 2012.
كرَّمته الأمانة العامة لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربي للتميز في الإنتاج الثقافي العام 2013.
مسقط - عبدالله حبيب
التقدُّم في العمر خسران محبَّات، وصداقات، وزمالات، وأفكار، وأحلام، ومشاريع، وسذاجات، وأوهام، واكتساب لخبرة لا تفيد ومعرفة لا تُؤدِّي إلى أي نفع.
بعد الثلاثين من العمر تتعاقب الأشياء في ضرب سالب من «عوْد أبديٍّ». يروق لي أن أفكِّر أحياناً أنه لو تمَّ عكس اللقطة الطويلة التي استهلَّ بها أندريه تاركوفسكي فيلمه الوداعي الخالد «القربان» (سبع دقائق كاملة)، والتي يدور فيها حوار مشَّاءٌ (حرفياً وبالمعنى الفلسفي للكلمة) بين أستاذ فلسفة ومسرح وعلم وجمال متقاعد (أليكساندر) وساعي بريد (أوتو) حول نيتشه في يوم كان يُفترض أنه اليوم الأخير في العالم، وهي لقطة تتبُّع معقَّدة (Complex tracking shot) تجتهد فيها الكاميرا لتقديم تأويل بصري حول المقولة النيتشوية تلك. يروق لي أن أرى تلك اللقطة من نهايتها حتى بدايتها، مجدَّداً ومن جديد.
بعد الثلاثين لا شيء يحدث للمرة الأولى. وإن حصل فهو لا يحدث إلا ليذكِّرك عامداً بفقد ما، أو ليغرز متعمِّداً في خافقك المهيض جناحاً مستحيلاً.
التجربة بالمعنى الوجودي للكلمة، لا تزال مفتوحة - مفتوحة على كل شيء، حتى اللحظة التي تغمض فيهما العينان للمرة الأخيرة (والعينان هما أول ما تبدأ الديدان أكله في الجثة بعد الدفن لأسباب بيولوجية هي أوضح من أن تُذكر، واعتبارات ميتافيزيقية هي أكثر صعوبة من أن أعرفها). لكن الأشياء انغلقت، أو أُغلقت. ثمة عطب كبير أصاب جهاز استقبال العالم في الروح، أو أن ذلك العطب الرهيب أصاب العالم نفسه الذي ما انفكَّ ينأى، وينأى، عن الروح.