في خاصرة المشهد السياسي الإقليمي، وعلى وقع «هدنة وقف إطلاق النار» انتشر الحديث عن «الفيدرالية» التي سوّق لها نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف كحل لإنهاء الحرب في سورية قائلاً: «أستبعد تطور الأحداث في سورية وفق سيناريو كوسوفو، ولابد من وضع معايير محددة للهيكلية السياسية في سورية في المستقبل تعتمد الحفاظ على وحدة أراضي البلاد بما في ذلك إنشاء جمهورية فيدرالية خلال المفاوضات».
العبارة واضحة كما الشمس في كبد السماء، لكن التأويلات في عالم السياسة أمر مختلف، التساؤلات أثيرت، وتباينت وجهات النظر وردود الأفعال بشأن خيار «الفيدرالية» ومضمونها وتوقيتها، وعما إذا لها علاقة بالخطة «ب» التي بشر بها وزير الخارجية الأميركي جون كيري؟ أم هي مجرد إشارة روسية متعمدة لاستئناف مفاوضات الجولة الثانية من «جنيف 3» وضمان استمرار مسار الهدنة؟
دويلات اللامركزية
على وقع التصريح، هناك من فرَّق بين فكرة «الفيدرالية» وفكرة «التقسيم»، وأحد مبرراتهم أن التدخل الروسي العسكري في سورية جاء للمحافظة على وحدة الدولة ومؤسساتها، كما أن مفهوم الفيدرالية المتعارف عليه في نهاية المطاف مفهوم إداري ثبت بأنه يحمي الهوية السياسية ويمنع التشطير الجغرافي على أسس طائفية وإثنية، لقد سبق لدول عديدة اعتماده كنظام ونجحت كفرنسا والولايات المتحدة.
على النقيض وجده آخرون، مشروعاً خطيراً من الناحية السياسية، بسبب تزامنه مع الهدنة، فهو يهدف برأيهم إلى تقسيم سورية إلى دويلات قائمة على مرتكزات عرقية طائفية «دويلة علوية» للنظام، وأخرى «سنية» للمعارضة ودرزية واثنية كردية.
في كل الأحوال هذا الخيار ليس بجديد ولا يشكل مفاجأة، فقد سبق وتطرق إليه المحللون وتناولته مراكز الدراسات البحثية، الجديد هو طرحه والتشاور بشأن تنفيذه الآن - أي في إطار تنفيذ «هدنة وقف الاقتتال»- وخصوصاً وقد حذر جون كيري من تقسيم سورية، إن لم تنجح الهدنة.
في سياق تداول فكرة «الفيدرالية» هناك من التقط الخيط، كرئيس مجلس سورية الديمقراطية المعارض هيثم منّاع الذي زار الحسكة قبل أسبوع، وصرح بأن «مجلس سورية الديمقراطية يتبنّى اللامركزية في الحكم، ولا يعتقد أن أي مشروع مركزي للحكم قادر على إعادة البناء والتنمية لسورية... وأن الشعب السوري سيحدد مصيره بنفسه، ولن ينتظر شفقة أحد في حل الأزمة السورية»، ومثله صرح قيادي كردي من مدينة القامشلي بأنهم «يتحضرون لمشروع الفيدرالية من أجل سورية، وأنهم يسعون إلى تطويرها نحو سورية اتحادية ديمقراطية، وأن نموذجهم هذا سيكون النموذج الذي يحتذى به في جميع دول المنطقة»، باعتبار أن المرحلة هي مرحلة تاريخية للأكراد، فيما رأى «المجلس الوطني الكردي» المحسوب على رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني: أنّ «تقسيم سورية غير مطروح عندهم، لكنهم يعملون لتحقيق هدفهم في إقامة نظام ديمقراطي، برلماني، اتحادي بموجب دستور علماني يضمن حقوق جميع أطياف المجتمع السوري، مع الإقرار بالفيدرالية لكردستان سورية»، إلا إن ثمة تقارير أخرى تشير إلى أنّ المكونات الكردية ليست موحدة تجاه هذا المطلب، فبعضهم يرى أنهم جزء من الشعب السوري، وأن الفيدرالية تعني بالنسبة إليهم تقسيماً عرقيّاً وطائفيّاً لا يتناسب والعيش المشترك في المجتمع السوري.
مصالح موسكو وواشنطن
قبل الخوض في تفاصيل ردود الأفعال والمواقف الأخرى، واستناداً إلى تطور معطيات الميدان السوري، ثمة من يعتقد بأن روسيا غدت صاحبة القرار في تحديد المستقبل السوري وقد استعجلت في طرح خيار «الفيدرالية» لأسباب لها صلة بالمفاوضات والتفاهمات السرية التي تجرى بينها وبين الولايات المتحدة لتقسيم الكعكة، وهي تشي بحصولها على الضوء الأخضر كقوة وكوجود عسكري في المنطقة وخصوصاً مع الصمت الأميركي تجاه تدخلها في سورية وغاراتها على الفصائل المقاتلة هذا من ناحية.
ومن ناحية متصلة، روسيا تستفيد بالطبع من الواقعية الدبلوماسية للرئيس بارك أوباما وسياسته الخارجية التي تميل إلى العمل الدبلوماسي وليس المواجهة العسكرية، وخصوصاً مع سياسة «الاستدارة» الأميركية (Pivot) نحو منطقة آسيا - الباسفيك وعدم الخوض في مستنقع الحروب الأهلية في الشرق الأوسط، كما أن الروس على عجلة من أمرهم في استثمار ما حققوه في الميدان وتجنب حرب الاستنزاف المديدة وكلفتها المادية والبشرية العالية إن طال أمد الحرب، ففي حال استمرار القتال بالوتيرة نفسها قد يستهلك «5-10 في المئة» سنويّاً من موزانة الدفاع الروسية التي تأثرت أصلاً من أكلاف الحرب في أوكرانيا، وتدهور أسعار النفط والعقوبات الغربية، وعليه، لابد من ترجيح كفة الحل السياسي، و»الفيدرالية» التي تبدو بحسب النظرة الروسية خياراً موضوعيّاً متاحاً.
إلى جانب ذلك التلويح بخيار «الفيدرالية» ما هو إلا رسائل ضغط وكبح جموح تبعثها روسيا لأطراف النزاع المباشرة وغير المباشرة، المتحالفة والمتضاربة المصالح التي تهدد حسب اعتقادها بإفشال الهدنة ومحاولة عقلنة مواقفها في إعادة التموضع ودراسة الخيارات وهي التي كتركيا ما برحت حتى وقت قريب تهدد بالتدخل البري، وعدم السماح بقيام شريط كردي يمتد في الشمال السوري أو حتى بالحديث عن مكونات فيدرالية يكون للأكراد حصة فيها.
لاشك أن تركيا ترى في تنفيذ فكرة الفيدرالية رسالة تهديد لها، وأنها ستكون المتضرر الأبرز إن تعززت النزعة الاستقلالية لأكراد الشمال السوري وحصلوا على كيان خاص بهم، الأمر الذي قد يهدد التركيبة الداخلية في مجتمعهم المحلي، كما أنها رسالة ضغط أيضاً كي توقف تركيا تسهيل عبور المقاتلين إلى سورية.
ومنه تبقى الفترة المقبلة حبلى باختبارات جديدة لمسار مفاوضات الجولة الثانية لـ»جنيف 3» ونتائجها في إطار «الهدنة» التي تدعمها واشنطن وموسكو، قد تحمل في جعبتها إجابات لما يخطط له من تغيير في خرائط المنطقة وتفتيتها إلى دويلات بحسب مصالح الدول العظمى والإقليمية، فما جرى في العراق وتقسيمه وما حل بليبيا والسودان وبقية الدول العربية يثير الشجون والهواجس، وعلى قول كمال خلف الطويل: «أقاموا فيدرالية السودان؟ ألم تتفاقم مشكلة الجنوب بعدها؟ هل حلّ تفدرلهم شيئاً أم فاقم؟ ألم تنفجر مشكلة دارفور بينما هي ولاية اتحادية في فيدرالية السودان؟...إن فدرلة الأقطار هو انفصال مغلف لأعراقها وطوائفها ومذاهبها، بما يحوّلها إلى أكياس لمّة لأقليات، كبيرة وصغيرة، تتناهب الجغرافيا وما تحتها، وتختلف وتتفق تحت سقف راع إقليمي أو دولي؟...إنها وصفة جاهزة لخراب الديار والأقطار». ونقطة على السطر.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4932 - الثلثاء 08 مارس 2016م الموافق 29 جمادى الأولى 1437هـ