من الصدف أن تكون وفاة المفكر الإسلامي الكبير الدكتور طه جابر فياض العلواني في يوم ميلاده. فقد توفي العلواني في الرابع من شهر مارس/ آذار الجاري فوق الأراضي الأيرلندية، وهو في الطائرة التي كانت تقلّه إلى واشنطن عن عمر ناهز الحادية والثمانين. العلواني الذي وُلِدَ في الفلوجة بمحافظة الأنبار (60 كيلومتراً شمال غرب العاصمة بغداد) في 4 مارس العام 1935م كان واحداً من أهم المفكرين الإسلاميين في العالم الذي مَزَجَ ما بين أصالته الدينية ومعاصرته للأفكار الحديثة.
كانت بدايات الشيخ العلواني التعليمية في أربعينيات القرن الماضي في موطنه العراق، لكنه واصل مشواره التعليمي في كلية الشريعة والقانون التابعة للأزهر الشريف، حيث تخصص في أصول الفقه ونال درجة الدكتوراه وذلك في العام 1973م. لكن حياته اشتملت على جوانب سياسية أيضاً، حيث وقف معارضاً لنظام البعث في العراق منذ العام 1969م وهو ما جعله عُرضةً للمطاردة، فارتحل عن الوطن وظل في الخارج طيلة 47 سنة ولغاية وفاته.
عَمِل العلواني مدرساً في جامعة الإمام محمد بن سعود بالمملكة العربية السعودية طيلة عشر سنوات (1975م - 1985م)، ثم قرر المغادرة إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث بدأ في الاشتغال بتأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الذي أصبح رئيساً له لثماني سنوات. كما أسس مجلس الفقه الإسلامي في أميركا الشمالية، وجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية في فيرجينيا، وشغل منصب أول أستاذ كرسي للبرنامج المشترك في الدراسات الإسلامية الذي تقدمه عشر جامعات أميركية في واشنطن، ورَأَسَ كذلك تحرير مجلة (إسلامية المعرفة).
لكنه أيضاً احتفظ بعلاقات أكاديمية وإسلامية واسعة في العالم الإسلامي، فكان عضواً مؤسساً في رابطة العالم الإسلامي، وعضواً في المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية في الأردن، وعضواً في مجمع الفقه الإسلامي الدولي في جدة، كما يقول أحد معارفه وهو فتحي ملكاوي.
وقد بحث الراحل العديد من القضايا المهمة في التشريع الإسلامي كفقه الأقليات والأديان المقارنة والفكر الإسلامي المعاصر. وقد اعتُبِرَ كتابه المسمّى بـ أدب الاختلاف في الإسلام واحداً من أهم الكتب التي مزجت ما بين التاريخ والفقه والفكر نظراً لحاجة الساحة الإسلامية إليه، حيث ناقش موضوع اختلاف الصحابة في عهد الرسول (ص) والتأويل وضوابطه ومعالم أدب الاختلاف في عصر النبوة وسمات أدب الاختلاف في عهد الخلافة الراشدة والخلاف في عهد التابعين وأثر الخلاف السياسي في الاختلافات الاعتقادية والفقهية، ثم عرّج على أسباب الاختلاف الفقهية في عصر الفقهاء.
استطاع العلواني أن يَلِجَ إلى (ويقترب من) العديد من المدارس الإسلامية بحكم تبحُّره وعلاقاته الممتدة ونظرته الشاملة إلى الأشياء. فالراحل له 48 كتاباً و53 بحثاً و52 مشاركة في مؤتمر دولي، طرح فيها العديد من الأبحاث التي تسبر تلك العلاقات وذلك الشمول. وكانت كتاباته في «مقاصد الشريعة» من أنفس ما كتب، وصارت محل طلب العديد من الجهات الإسلامية. وقد وجدتُ في إحدى مراسلات الشيخ جعفر السبحاني مع الدكتور عبدالوهاب إبراهيم أبوسليمان أن الأول طلب من الثاني تزويده كتاب مقاصد الشريعة للعلواني (فضلاً عن كتابَيْ علال الفاسي وأحمد الرويسي).
كما تحدى العلواني الكثير من الأعراف والفتاوى التقليدية حين غايرها. وقد (نقل) وشَهِدَ للشيخ محمد الغزالي (1917م - 1996م) أنه لم يفتِ بقتل المفكر العلماني المصري فرج فودة (1945م - 1992م) حتى مع موقفه المعروف في المحكمة حين استدعته بعد اغتيال فودة، بل إنه (أي الغزالي) قال ما قال كي يحمي دم المتهمين، أما حقيقة رأيه فهو أنه لا يؤمن أن للردّة حَداً لأن الحدود مُكفِّرات، فبماذا تُكفِّر بالنسبة للمرتد؟! وكان هذا الرأي هو ذاته رأي الدكتور العلواني.
أما عن نشاطه في الشأن العام، فـ على الرغم من تفرغه التام للتدريس والعلوم الشرعية وأيضاً غربته عن بلده العراق، إلَّا أنه كان يكتب عن همّه السياسي وإن بشكل مقتضب، سواء مساعيه لإيقاف الحرب العراقية الإيرانية سنة 1982م أو كتاباته عن الأمة ومشاغلها. وقد كان آخر ما كتبه العلواني في هذا المجال عن الوحدة العربية. حيث كتب عن الحاجة لعودة: «المواصلات البريَّة لتربط بين العرب في آسيا وشمال إفريقيا والبلدان المغاربيَّة؛ لتبدأ عمليَّات الألفة بين شعوبنا والتهيؤ للتداخل تمهيداً للوحدة وإيجاد فرص التكامل، والتعاون الاقتصادي بصفة خاصَّة».
لقد فقدت الجامعات ومهابط العلم واحداً من أبرز أعمدتها (أو طلابها كما كان يُحب أن يُقال عنه). وربما يكون عهد الوفاء معه هو لملمة تراثه وأسفاره التي لم تُطبع بعد، ففي ذلك أمانة حتى ولو كان هناك رأيٌ آخر.
العدد 4931 - الإثنين 07 مارس 2016م الموافق 28 جمادى الأولى 1437هـ