قبل ثلاثة أيام وُضِعَ السودان تحت نظام الموت. فقد رحل أحد أهم سياسيِّيْه المعارضين، وأبرز مُنظِّر للإسلاميين في السودان طيلة خمسين عاماً: حسن عبدالله الترابي بعد تعرضه لغيبوبة مفاجئة في مكتبه أوقَفَتْ قلبه مرتين قبل أن يُعاوده النبض بعد جهدٍ خرافي من أطباء مستشفى رويال كير في الخرطوم، إلاّ أن قلبه المُتعَب عاود السكوت ولكن هذه المرة إلى السكون وصمت الأبدية، حيث أعلِنَ عن وفاته بعد سويعات من عجز الأطباء عن إسعافه وهو يناهز الرابعة والثمانين من العمر، في يوم لم يُكمِل منه سوى صلاة الفجر وإفطاره اليومي، وشيئاً من وريقات مكتبه العتيق.
حياة الترابي حافلة جداً. فعلى المستوى الأكاديمي دَرَسَ الراحل الحقوق في جامعة الخرطوم، ثم أجِيْزَ من أكسفورد العام 1957 كطالب قانون. لكنه عَمَّد حياته الجامعية بِنَيلِهِ شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون الفرنسية العام 1964. ومنذ ذلك الوقت أصبح أستاذاً في العديد من الجامعات الأجنبية، ساعده على ذلك قدرته على إجادة الفرنسية والألمانية والإنجليزية فضلاً عن العربية بطلاقة، وهي اللغات الأساس في العلوم والسياسة على حدّ سواء.
أما على المستوى الحَركِيْ فقد كان الترابي منتمياً إلى جماعة الإخوان المسلمين وزعيماً فيها، إلاّ أنه انفصل عنها عندما كان في السابعة والثلاثين من العمر، وبدأ في اختطاط منهج خاص به. وكان السودان مهداً للحركات الصوفية (ولايزال) الأمر الذي جعل العمل الدعوي فيه يحمل خصوصية انفرد بها عن غيره فيها. فضلاً عن انقسام البلد العشائري والقبلي، وغُربة مناطق كثيرة فيه عن التحدث بالعربية، لصالح لغات ولهجات محلية تزيد على الـ 300 لغة منها النوبية والبجا.
وكتب الترابي العديد من الأبحاث الدينية التي أغنت مدرسته وأفكاره. وكان أول ما كتب هو عن قضايا الوحدة والحرية وجديد أصول الفقه ثم توالت كتبه في الصدور فكتب عن تجديد الفكر الإسلامي والأشكال الناظمة لدولة إسلامية معاصرة وتجديد الدين ومنهجية التشريع والدين وكذلك عن السياسة والحكم والفن وعن علاقة المرأة بالتعاليم الدينية وتقاليد المجتمع. كما كتب عن الحركات الإسلامية وتفسير القرآن الكريم.
أما سياسياً، فقد دخل الترابي معترك السياسة معارضاً أيام حكم جعفر نميري الذي سجنه عدَّة مرات، إلاّ أنه وبعد سقوط حكم نميري عُيِّن نائباً لرئيس مجلس الوزراء بعد تشكيل الحكومة الائتلافية بين حزب الأمة، والجبهة الإسلامية القومية برئاسة الصادق المهدي. إلاَّ أن الجبهة (التي ينتمي إليها الترابي) خرجت من الائتلاف، وبالتالي من الحكومة، احتجاجاً على دخول الصادق المهدي في محادثات سلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، وما تلا ذلك من تطورات كإلغاء حالة الطوارئ.
وعندما وصل الجيش إلى السلطة عبر ما سُمِّي بثورة الإنقاذ الوطني بقيادة عمر البشير إثر انقلاب عسكري في الثلاثين من يونيو/ حزيران من العام 1989، كان الترابي حليفاً للعسكر، فعُيِّن وزيراً للخارجية ثم انتخب العام 1996 رئيساً للبرلمان كما اختير أميناً عاما للمؤتمر الوطني الحاكم العام 1998. ثم نشب خلاف بينه وبين البشير حتى وقع انشقاق في كيان النظام العام 1999، فجُرِّد الترابي من مناصبه الرسمية والحزبية، وقادته معارضته إلى السجن عدَّة مرات في الحقبة ذاتها التي شارك في تشييدها، وخصوصاً بعد توقيع اتفاقية نيفاشا في العام 2005، بعد أن اعتبرها الترابي السبب في اقتطاع جزء مهم من السودان، وهو الجنوب وخسر بسببها الكثير من ثرواته الوطنية كما قال.
اشتهر الترابي بالقدرة على طرق أبواب جديدة في الفقه الإسلامي وكذلك التنظير الفكري للجماعات الإسلامية. وقد كشفت صحيفة «السوداني» قبل أيام أن لقاءً جمع الترابي بالبشير تحدث فيه الأول عن توحيد أهل القبلة وليس الإسلاميين فقط، حيث ضمّ إلى أهل القبلة كل الحركات الإسلامية السودانية والمتصوفة والسلفيين والحركات الحديثة، وتيارات من القوميين العرب واليسار وقوى مجتمعية أخرى كما وصف ذلك الأمين السياسي للمؤتمر الوطني حامد ممتاز.
مثل هذه المواقف الدينية، وبقية الفتاوى التي انفرد بها الترابي كإجازته زواج المرأة المسلمة من اليهودي والمسيحي، واصفاً تحريم تلك الزيجات بأنها «مجرد أوهام وتضليل الهدف منها جرّ المرأة إلى الوراء» واستخدامه لمصطلح القياس الواسع، والقول بشعبية الاجتهاد وجواز تولي غير المسلم الحكم في السودان قد عُدَّت تمرداً من الترابي على الموروث الديني بل وعلى آرائه السابقة، وهو ما سبب له عداوات ومماحكات في الإعلام مع مرجعيات دينية في العديد من بلدان العالم الإسلامي، في حين اعتبر آخرون أن تلك الموقف هي على خط تعظيم العقل مادام الترابي على خط التشكيك.
في المحصلة، كانت شخصية الراحل جدلية بامتياز، سواء في السياسة أو الفكر. كان الترابي يقول ما يُعاكس الحكم، ويفعل ما يُغايره. يُؤكد ما كان ينفيه سابقاً، وينفي ما كان يُؤكده في السابق. أتذكر أنه وفي لقائه على «الاتجاه المعاكس» مع صادق جلال العظم كان يقول إن «الفن كله تاب إلى الإسلام، والاقتصاد كذلك تاب للإسلام» لكنه وفي سنينه الأخيرة كان يقول: «الفقه الإسلامي خالٍ من التأصيل السياسي. ولا يوجد اقتصاد إسلامي ولا فن إسلامي ولا رياضة إسلامية»! وكانت تلك المواقف من الرجل مراجعات صلبة داخل مدرسته، وإن اعتُبِرت تنصلاً.
العدد 4931 - الإثنين 07 مارس 2016م الموافق 28 جمادى الأولى 1437هـ