العدد 4931 - الإثنين 07 مارس 2016م الموافق 28 جمادى الأولى 1437هـ

يحيى حقِّي: أدبنا يُعاني من المُيوعَة والسطحية

من ذاكرة الحوارات في «الدوحة»...

يحيى حقِّي
يحيى حقِّي

في رائعة الروائي العربي المصري الكبير الراحل يحيى حقِّي (1905-1992)، «قنديل أم هاشم»، والتي تم تكييفها لتظهر في السينما في وقت مبكِّر، وتحديداً في العام 1968، بسيناريو كتبه صبري موسي ومن إخراج كمال عطية وبطولة شكري سرحان، تحكي قصة طالب يعيش في حي السيدة زينب مع والديه، تأخذه الحياة في سفر إلى ألمانيا لاستكمال دراسته في مجال الطب. عالم آخر وجديد سيتعرَّف عليه من خلال الاحتكاك بحضارة جديدة عليه، حيث يتعرف إلى فتاة ألمانية. الطالب (إسماعيل) يعود إلى بلاده ليمارس عمله طبيباً للعيون، من خلال اتخاذ مقر عيادته في الحي الذي عاش فيه. يلاحظ الطبيب زيادة في فترة المرض عند مراجعيه، ويكتشف السبب وراء ذلك، وهو أن المرضى يستخدمون قطرات من زيت قنديل المسجد. خطيبته تعمد إلى العلاج بالأسلوب نفسه، ما يدفعه إلى تحطيم القنديل. وكرد فعل على ما قام به، يهجره المرضى وكذلك عائلته، في تفسير يرمي إلى أن الطبيب دخل في حال تحدٍ واستفزاز لمعتقداتهم الدينية. وما تنتهي به الرواية من إيجاد تلك الرابطة بين العلم والإيمان كي يعود الطبيب إلى حياته الطبيعية.

تلك مقدمة لابد منها للوقوف على شيء من الذاكرة في حوار قديم يعود إلى أكثر من ثلاثين عاماً، وتحديداً في يناير/ كانون الثاني 1976، أجراه عبدالوهاب الأسواني في مجلة «الدوحة» مع الأديب حقِّي، تناول فيه عدداً من القضايا والمفاهيم والإشكالات التي تعاني منها كتابات ونتاجات الشباب وقتها؛ الأمر الذي ليس بعيداً في ما جاء من رؤية وقتها عن الشباب اليوم. تناول الحوار أيضاً وبشكل مركَّز روايته التي اشتهر بها في مصر والعالم العربي «قنديل أم هاشم»، تلك التي أوردنا خلاصة قصتها في مفتتح هذه الكتابة.

العبث الكريم بالألفاظ

كان مفتتح الحوار يتعلق بالأساليب في الكتابة وقتها. كان حقِّي حادَّاً في كثير مما جاء في إجابته على السؤال؛ إذ قرَّر من البداية بأن العرب لن يصلوا إلى إنتاج أدب يجدون فيه أنفسهم أولاً، ويصلح ثانياً للترجمة والنقل إلى الثقافة العالمية ما لم يتم التخلُّص من عيبين كبيرين كما أسماهما: الميوعة والسطحية «لنعتنق بدلاً منهما: التحديد والعمق. أما اشتراط صفة الصدق لهذا الأدب، فأمر مُسلَّم به».

وفيما يتعلق بالميوعة يرى حقِّي بأننا نعبث بالألفاظ «عبثاً غير كريم». نحن ورثة أجيال متعدِّدة تعاقبت في عصور الانحلال على أمتنا، هامت بالسجع اللفظي - لا أداء لمعنى - بل لمجرد لذة الخدر بالرنين، وإن كان أجوف فارغاً.

مشيراً إلى أن تعبيرات كثيرة هي بمثابة السجن المفروض على مجموعة من الألفاظ، فقدت في هذا الأمر معناها وكرامتها... تكاد تكره فيه بعضها بعضاً.

الإشارات إلى مجموعة النقود التي طالت روايته «قنديل أم هاشم» كانت مركزية في الحوار وقتها. ضاق ذرعاً وتململ من بعضها، وتقبَّل بصدق وإدراك بعضها الآخر. من ذلك ما ذهب إليه أحد النقَّاد من أن الرواية المذكورة ليست قصة! ولم يتردَّد في الإجابة بالقول: «أنا أدرى الناس بعيوب هذه القصة... وأهمها خلوُّها من الحوادث، وربما كان الناقد رشاد رشدي على حق حين نفى عنها صفة القصة، لكنها تمثِّل مع ذلك فهمي الخاص للقصة... فأنا ضيِّق الصدر بالسرد وتتابع الحوادث، وأحب أن أصل بسرعة إلى المغزى والدلالة».

في سرْد العيوب

عُرف عن يحيى حقِّي قربة من الشباب في زمنه، على رغم الفارق في العمر بينه وبينهم. كان يأنس بتجاربهم، ويعوِّل عليها، لكنه لم يخفِ إحباطه من حال التعجُّل، وعدم العناية بتعميق المعرفة بلغتهم الأم. اللغة التي يرى فيها كنزاً متى ما احتويت القليل منه، سيمنحك ذلك غنى واستيعاباً لموضوعات وقضايا وطنك وشعبك. قضاياك أنت كفرد بالضرورة. كان حديثاً في سرْد العيوب التي يمكن تجاوزها بمزيد من السهر والجد في القفز بالتجربة إلى آفاق أكثر عمقاً وقيمة.

كان السؤال مرتبطاً بالعيوب التي لاحظها على الجيل الجديد من الأدباء، والتي لخَّصها في الفقر اللغوي الشديد، ويعني به هنا فقر الثروة اللغوية التي في أيديهم «فالوصف مثلاً هو نقل من العام إلى الخاص. وهم لا يستعملون في الأغلب إلا الألفاظ التي تصلح للعام. مع أن المطلوب نقلها إلى الخاص الذي يصفونه. عند توماس مان مثلاً لا تجد شيئاً إلا موصوفاً بصفتين أو ثلاث على الأقل، والمقصود بذلك التخصص لا التعميم، ولذلك ترى هؤلاء الأدباء الشبان يهيمون هياماً شديداً بكلمات بعينها، تتكرر عندهم مراراً، مثل (دلَف إلى)... وفي بعض الأحيان، حين ينقضي نهاري في الاستماع إلى هذه القصص من فم كاتبيها، أجدني أقول في سرِّي وأنا أهمُّ بالنوم: ها أنا أدلف إلى فراشي»!

ويوجز حقِّي العيب الثاني في فقر الأحاسيس/ العواطف عندهم، يليه فقر في الاتصال بالطبيعة عن طريق الحواس الخمس، ثم سذاجة في استعمال الرمز الواضح، والمفروض في الرمز أن تكون القصة مفهومة على نحو، ولكنها تخفي وراءها معنى آخر.

من حسنات الأدباء الشباب

أما عن حسنات ما يكتبه الأدباء الشباب، فإنهم لا ينظرون إلى الأدب - كأدب مجرد - «كما كنا نفعل» بل يمزجون الأدب بالفلسفة بالسياسة بالتاريخ بالاقتصاد، مع محاولات عظيمة في التجديد، مستدركاً بالقول، إن بعضهم يفهم التجديد بطريقة غريبة. ويورد هنا قصة للتدليل على وجهة نظره بالإشارة إلى أنه قرأ قصة قصيرة لكاتب شاب، فأحسست منذ السطر الأول أنني محكوم عليَّ بالأشغال الشاقة المؤبدة... لا أقطع الزلط فحسب، بل أمضغه أيضاً... «الكلمات هي التي (تبظ) وليست عيني. ثمرة: قشرتها ألف (راق) غليظ صلب. ونزع كل (راق) يتطلب مطرقة وجهداً من عضلات العقل والذراع... الاستعارات والتشبيهات مخطوفة غدراً. والخاطف - على خلاف قرنائه - يجمع كل الاختصاصات: فتح الخزائن... تسلق مواسير المياه... القبض على الدجاج... تعبئة الغسيل على الحبل، ولو لم يجف بعد! جمْع الحلل النحاسية... نشْل للمحافظ وأقلام الباركر... إنزال التلفزيون والراديو والنجف من النافذة»!

كان السؤال المهم من بين مجموعة الأسئلة التي لا تقل أهمية، ذلك المتعلق بـ: ما الذي ينقص أدبنا الحديث ليصبح أدباً عالمياً؟

أجاب: أدب الأمم المتحضِّرة وصل إلى الغايات النهائية في الكشف عن النفس البشرية، وعن المشاكل الاجتماعية، والقضايا الروحية والفلسفية، ويُخيَّل لمن يقرأ أدبنا الحديث أننا لا نزال في منتصف الطريق. كلامنا وسط... فالأمل عندي هو بلوغ الغايات الممكنة لطاقة الإنسان، وحين نبلغ هذه الدرجة سنجد أدبنا الحديث يحتل مكانة في المكتبة الغربية. أما الآن، فمازالت القضايا في أدبنا غير مدروسة باستيعاب وعمق إنساني يوافق العصر الذي تعيش فيه (...).





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً