من خلال ما قدمناه في الحلقة السابقة، يتضح أن هناك حضارة بدأت تتكون في البحرين، وذلك قرابة العام 3000 ق.م.، إلا أنه لا توجد أدلة كافية تشير لوجود علاقة قوية تربط هذه الحضارة وحضارة وادي الرافدين. يذكر، أنه منذ بداية الحضارة في جنوب الرافدين نشأت هناك علاقة بين الجنوب الرافدي وبين الساحل الشرقي للخليج العربي وبالتحديد في الحقبة العبيدية الممتدة ما بين 5300 - 4300 ق. م. (Carter 2006). بعد ذلك حدثت قطيعة بينهما، وربما يعود ذلك لتغير الظروف المناخية التي أدت إلى أن تكون منطقة شرق الجزيرة العربية شبه خالية من السكان (Uerpmann 2003). ثم بدأت العلاقات تعود قرابة العام 3300 ق. م؛ حيث عثر على آثار في شرق الجزيرة العربية تدل على وجود استيطان يمتد من 3300 ق. م. وحتى 2400 ق.م (Piesinger 1983, p. 467).
كذلك في دولة الإمارات وسلطنة عمان، فقد بدأت حضارة أم النار بالتكون وذلك قرابة العام 2700 ق. م. وقد تأثرت هذه الحضارة، بثقافات وادي السند والثقافات التي قامت في إيران ووسط آسيا بالإضافة لثقافة بلاد الرافدين، كما أنها طورت لنفسها ثقافة خاصة تمثلت في طريقة البناء الخاصة بها، وبتطوير نوع خاص من الفخار، وكذلك تميزت بطريقة بناء قبور معينة (Potts 2005). وهكذا، يلاحظ نشوء حضارات مختلفة في شرق وجنوب شرق الجزيرة العربية، منذ قرابة العام 3000 ق.م، وأن هذه الحضارات كانت تربطها علاقات تجارية واضحة بالحضارات التي قامت في جنوب الرافدين. يستثنى من ذلك البحرين؛ حيث لم يعثر فيها، بعد، على دليل قاطع يؤكد وجود علاقات تجارية بينها وبين حضارات وادي الرافدين في الحقبة ما بين 3000 - 2500 ق. م (Potts 1983).
فالمرجح، إذاً، أن الحضارة التي نشأت في البحرين قبل العام 2500 ق.م، وإن تأثرت بالجنوب الرافدي، إلا أنه لا يوجد ما يدل على وجود علاقات تجارية بينها وبين الجنوب الرافدي. يذكر أن تطور الحضارات التي نشأت على سواحل الخليج العربي ارتبط بتطور النظام الاجتماعي في حضارة وادي الرافدين، والذي بدأ تدريجياً منذ العام 3200 ق. م، وبدأ واضحاً بعد العام 2500 ق.م.
التغير الاجتماعي في حضارة بلاد الرافدين
يرجح عدد من الباحثين أن الحياة الاجتماعية في سومر المبكرة كانت شبيهة بالنظام الاشتراكي وكان الملك يعطى درجة دينية معينة (Kennedy 2012)، ومنذ بداية حقبة جمدة نصر في الجنوب الرافدي (3200 - 2900 ق. م)، بدأت تحدث تغيرات اجتماعية واقتصادية انعكست على نظام الحياة الاجتماعية وكذلك مفهوم «الملك» الذي بدأ يميل لأخذ الطابع السياسي بدلاً من الطابع الديني (Vacin 2001, p. 188). ومن التغيرات الاجتماعية المهمة، الميل نحو زيادة نسبة خصخصة الأعمال، وإعطاء الجماعات العرقية, التي تتعايش ضمن بلاد سومر، استقلالية أكبر (Steinkeller 1991, 2004).
لقد ساهمت تلك التغيرات في إنعاش حركة التجارة، وقد تزامنت تلك التغيرات بعودة العلاقات مع الدويلات التي بدأت تتكون على سواحل الخليج العربي، وقد اكتسب الجنوب الرافدي أهمية كبيرة في تلك الحقبة حيث أصبح منطقة «العبور» الرئيسية لجميع البضائع التي تصل لبلاد الرافدين عن طريق البحر. وقد كانت هناك علاقات مباشرة بين الجنوب الرافدي وكل من وادي السند ومگن ودلمون. هذه الحركة التجارية النشطة في الجنوب الرافدي أدت لتطور النظام الاقتصادي في المنطقة، وكذلك لتوافد العديد من العرقيات المختلفة، مما أدى لظهور طبقات مختلفة من السكان كالتجار والوسطاء والمترجمين والحرفيين المتخصصين. وبذلك أصبحت هناك جماعات متثاقفة تحمل فكراً تجاريّاً مميزاً.
وهكذا، اقتضت السياسة السومرية الجديدة أن يتم تعيين رئيس لأي جماعة عرقية من نفس هذه الجماعة، أي أن الجماعات العرقية، التي تعيش ضمن حضارة سومر، كانت تحكم نفسها بنفسها، وقد اعتبرت هذه السياسة سلاحاً ذا حدين (Steinkeller 1991)؛ حيث يمكن لجماعة عرقية ما أن تتمرد وتعمل لصالحها وتتطلع لحكم الجماعات الأخرى، ومن ناحية أخرى يمكن لهذه السياسة التحكم في الجماعات الأخرى عن طريق رئيس منها تحترمه الجماعة، ويتفهم خصوصياتهم وفي نفس الوقت يكون هذا الرئيس موالياً للسلطة المركزية أي الملك. هذه الجماعات العرقية تعمل وفق آلية معينة بحيث يعمل كل فرد أعمالاً خاصة به وبالمقابل فإنه يتوجب على هذا الفرد أن يعمل بقدر معين لصالح الدولة كلها (Steinkeller 1991, 2004)؛ وبذلك لا تكون الجماعات العرقية منفصلة عن الدولة.
ولكي نكون أكثر وضوحاً، فإن لكل جماعة عرقية ثقافة خاصة بها تجمعها ولكن جزءاً من هذه الثقافة يعتبر من العموميات التي تجمع الجماعات العرقية كلها بحيث تعطي طابعاً عاماً للدولة أو للحضارة ككل. إلا أن الخصوصيات الثقافية لكل جماعة عرقية لا تظهر إلا عندما تنعزل هذه الجماعة بعيداً عن السلطة المركزية. وبحسب هذا المفهوم يمكننا تعليل خصوصيات وعموميات ثقافة الدويلات التي تكونت في حقبة جمدة نصر وما بعدها، كثقافة أم النار وثقافة دلمون، فهذه الثقافات، وإن كانت لها خصوصياتها التي تميزها عن غيرها، إلا أن لها عموميات تشترك فيها مع ثقافة جنوب الرافدين والتي انتشرت أيضاً في مناطق أخرى في الشرق الأوسط. ومن هنا نجد بعض الباحثين يعتبرون هذه الحضارات امتداداً لحضارة الجنوب الرافدي.
دلمون قبل سرجون الأكدي
ظهرت العلامة الدالة على اسم دلمون في العديد من الكتابات في حضارة وادي الرافدين، ويعود أقدم نقش يوجد فيه اسم دلمون لقرابة العام 3000 ق. م. هذا، وقد أظهرت الدراسات الحديثة للنصوص التي عثر عليها في مناطق مختلفة من حضارة وادي الرافدين وفي حقب زمنية مختلفة تبدأ من 3200 ق. م. وجود العلامة الدالة على اسم دلمون في العديد من المناطق وفي حقب زمنية مختلفة وأن شكل هذه العلامة يختلف من حقبة زمنية لأخرى وبذلك أمكن دراسة التطور التدريجي للعلامة الدالة على اسم «دلمون» منذ بدء عهد الكتابة وخلال مراحل تطورها التدريجي (بوتس 2003 ج1 ص 174).
ومثلما حدث تطور في شكل اسم دلمون، كذلك حدث تطور في الجماعات التي تحمل هوية دلمون؛ حيث حدث تطور في تشكيل الجماعات التي سكنت شرقي الخليج العربي، وذلك بحسب تطور نظام الحكم ومفهوم الملكية في الجنوب الرافدي. وقد بدأت التغيرات بالظهور في نظام الملك في الجنوب الرافدي منذ قرابة العام 3200 ق. م، إلا أنها أصبحت أكثر وضوحاً في الحقبة التي تلت عهد سرجون الأكدي (مؤسس الدولة الأكدية في حدود العام 2340 قبل الميلاد) (Steinkeller 1991, 2004). ولذلك تعتبر فترة سرجون الأكدي، فترة مفصلية في تاريخ تطور الحضارات التي نشأت في شرق وجنوب شرق الخليج العربي.
هذا، ويلاحظ أن النصوص التي وردت فيها علامة دلمون في الحقبة ما بين 3000 - 2500 ق. م، أي الحقبة التي تشمل حقب الوركاء وجمدة نصر وفجر السلالات، فهي في مجملها نصوص اعتبرت اقتصادية، حيث ترد علامة دلمون مرة واحدة على الأقل في نص يعود للوركاء الرابعة في قائمة تعداد المهن التي جاء فيها اسم «جابي ضرائب دلمون»، وفي حقبة الوركاء الثالثة (أو حقبة جمدة نصر)، وردت علامة دلمون في العديد من القوائم الاقتصادية ومن الأسماء التي وردت «جابي ضرائب دلمون» و «فأس دلمون» ومنتجات أخرى كالمنسوجات ومشتقات الحليب (بوتس 2003 ج1 ص 172 - 177).
يذكر، أنه من الصعب تحديد مكان معين لدلمون من خلال هذه النصوص التي تعود للحقبة ما بين 3000 - 2500 ق. م، إلا أن العديد من الباحثين يرجحون أن دلمون في هذه الحقبة كانت تشير لشرق الجزيرة العربية. وباتفاق جميع الباحثين في حضارة دلمون فإن النصوص لا تمت بصلة للبحرين بل ترتبط بأرض أخرى أقيمت عليها حضارة دلمون الأولى، في الغالب شرق الجزيرة العربية؛ حيث إنه لم يعثر في البحرين على دلائل آثارية تؤهلها لتكون مركزاً لحضارة دلمون (Potts 1983)، حتى وإن اعتبرت، البحرين، جزءاً من دلمون في هذه الحقبة، فهي لا تعتبر المركز. أما الوضع بعد فترة سرجون الأكدي، فيختلف، وهذا ما سوف نتناوله في الحلقات القادمة.
دامون موقعها الحقيقي هو ارض حضرموت منطقة دمون التي اكتشفت يالقرب منها سفينة نوح كما يقول الباحث ..