العدد 4926 - الأربعاء 02 مارس 2016م الموافق 23 جمادى الأولى 1437هـ

عبدالقدُّوس: عن الرواية والصمت... إدريس: فلتذهب الأشكال الفنية إلى الجحيم

«ظل الذاكرة... حوارات ونصوص من أرشيف (الدوحة)»...

لا شيء أهمّ من أن تُحصِّن وتحفظ ما أنجزتَ. قد يكون كل ذلك عرضة للنهب، للمحو، للنسيان أيضاً. صاحب الفطنة من يعي وبدراية وبعد نظر تلك المسألة والقيمة.

«ظل الذاكرة... حوارات ونصوص من أرشيف (الدوحة)» كتاب «الدوحة» المرافق لعددها الـ 100، بعد انقطاعها وصدورها في نوفمبر/ تشرين الثاني 2007، وحتى فبراير/ شباط 2016؛ إذ خرجت على العالم بعددها الأول في العام 1969، وتوقفت في العام 1986.

الكتاب هو «ذاكرة الدوحة» منذ الجرأة الأولى - إذا صح التعبير - احتوى على مقالات لأسماء عربية كبيرة وفاعلة في المشهد الثقافي والإبداعي العربي، كما احتوى حوارات مع شخصيات وأسماء بالأهمية ذاتها؛ علاوة على عدد من النصوص.

من حوار عبدالرحمن أبوعوف الذي أجراه مع الروائي المصري الكبير الراحل إحسان عبدالقدُّوس، وحمل عنوان: «إحسان عبدالقدُّوس: عن الرواية والسياسة والصمت»، والذي نشرته «الدوحة» في نوفمبر/ تشرين الثاني 1976، ووقوفاً عند حوار رائد القصة القصيرة في العالم العربي والروائي الطبيب يوسف إدريس، الذي أجراه عبدالوهاب الأسواني في ديسمبر/ كانون الأول 1976، وحمل عنوان «عندما يكون عقل أمتي في خطر فلتذهب جميع الأشكال الفنية إلى الجحيم».

الحوار مع عبدالقدُّوس تضمَّن استدراجاً إلى مساحات سياسية، من بينها المقاومة في لبنان، والوضعية المزرية للعالم العربي، وموضوعات التطور الحضاري والمظاهر، وقوفاً عند «الكاتب الروائي والكاتب السياسي»، وحدَّده سؤال أبوعوف في النص الآتي: ماذا عن صراع الروائي والسياسي في تكوين شخصيته. وإلى أي مدى يحل هذه الثنائية التي ينفرد بها بين كتَّابنا؟

الخيال لتخطِّي الواقع

عبدالقدُّوس: السياسة والرواية تتحدّدان عندي في إطار واحد، وهو تطلُّع الواقعية إلى الأماني الخيالية، ولا أقصد الخيالية بما لا يمكن تنفيذه، ولكن أقصد الخيالية الطموح لتخطِّي الواقع في الحاضر. فكاتب القصة يعيش في الواقع ويحاول أن يطوره، في خياله إلى صورة جديدة، وكذلك السياسي يعيش الواقع ويحاول أن يطوره إلى صورة جديدة، أو صورة أخرى، إنما الفرق الوحيد هو الفرق في مسئولية السياسي، والقصصي، فمسئولية الفكر السياسي هي مسئولية مباشرة، أي أنه مسئول عن تنفيذ أفكاره، أما فكر القصصي فهي مسئولية غير مباشرة، أي أنه قد يعمد بأفكاره إلى أناس غيره ليقوموا بتنفيذها.

الفرق بيني ككاتب سياسي، وككاتب قصة... هو إني أتمتع بحرية أكبر، وأنطلق إلى آفاق أوسع عندما أكتب القصة، عني عندما أكتب في السياسة.

لأني ككاتب قصة أتقيَّد بحرفية الواقع، كما أني لا أتقيد بمجرد الفكرة، لأني أخلط الفكر بالإحساس، وأترك الإحساس يسيطر على الفكر. كما أني أترك الخيال يسيطر على الواقع.

لا تبدو أفكار عبدالقدُّوس مُغلقة وعصيَّة على الفهم. هي مباشرة، ربما بمباشرة الرواية التي يكتبها. لا معمار معقداً في رواية عبدالقدُّس، وعلى رغم واقعية محفوظ، إلا أن معمار وبناء روايته لا يخلو من تعقيد، ويتسلل إليه مزيج من السحر الذي لا يتورط فيه محفوظ كثيراً.

في العناوين العريضة التي يتم من خلالها تلخيص توجهات واهتمامات عبدالقدُّوس هي رومانسيته في التعاطي مع موضوعات المرأة وانحيازه لها، وتبنِّيه لقضاياها وحقوقها. ذلك ما لا يكتمل به حوار معه ما لم يتم تناول جوانب منه.

أمي فاطمة

في سؤال أبوعوف الذي جاء في الصيغة الآتية: تحليل رواياتك في اتجاهاته العامة يؤكد - بخلاف معظم كتَّاب الرواية من جيلك - اهتماماً دائماً بقضية المرأة المصرية والعربية. وثمة إصرار على تصوير عالمها الغامض وسلوكها وأزمة وجودها في مجتمع شرقي محافظ... أرجو تفسير ذلك.

عبدالقدُّوس: نعم شغلت المرأة تفكيري، ولكن هل هذه تهمة؟ في معظم ما كتبت دافعت عن حرية المرأة، وتطرفت في هذا الموضوع، وأسيء في البداية فهم دعوتي وهوجمت. إن إيماني بحرية المرأة ليس له حدود، وربما كان أحد دوافعه الأساسية في البداية مستمدَّاً من إيماني بتفرُّد تجربة أمي (فاطمة اليوسف) هذه السيدة التي أثبتت وجودها في عالم الرجال ونجحت في فرض نفسها عليهم، وحققت ما لم يستطع كثير من الرجال أن يحققوه.

لقد قادني هذا الموقف إلى التوغل في تفاصيل حياة المرأة في بلادنا، والاهتمام بتحليل العواطف والأحاسيس في مجتمعنا المنقسم على نفسه، المتخبِّط ما بين قيَمه الراسخة وما بين قشرة من الحضارة العصرية فرضت نفسها عليه.

ولم يغب عن بالي، وأنا أخوض هذه التجربة، أنني سأواجه بكثير من الصياح والضجيج وقذف الطُوب.

بساطة عبدالقدُّوس؛ سواء في مقالاته، أو في حواراته، لا تعني أن الرجل لا يملك القدرة على أن يكون صعباً فيما يريد قوله؛ ولكن: ماذا بعد؟ البساطة هي التي تستطيع من خلالها أن تكشف الأسرار والغموض. الغموض لا يكشف غموضاً في كل ما نعرف من تفاصيل الحياة من حولنا.

إدريس... معْمل إيمان

ليس في حياته فحسب، كان كاتباً ومفكِّراً وصاحب رؤى إشكالية حتى بعد موته. يوسف إدريس، سِفْر وسَفَر. سِفْر ذهابه الذي لا يعرف المحطات. ذهابه في اقتناص اللحظات المدهشة؛ حتى تلك التي يبدو أنها تكتنز بعاديتها ومباشرتها. يحيلها في مصهره إلى ذهب ونفائس. نفائس الخلاص بالفكرة. خرائط طرق للذهول البشري. ومدى يغتسل فيه العالم من عذاباته في كثير من الأحيان. بين القصص القصيرة التي كان سيدها بامتياز، ومن دون منازع، بدءاً من: «أرخص ليالي»، «جمهورية فرحات»، «قصة حب»، «البطل»، «حادثة شرف»، «آخر الدنيا»، «العسكري الأسود»، «قاع المدينة»، «النداهة»، «بيت من لحم»، مروراً برواياته: «الحرام»، «العيب»، «رجال وثيران»، وليس انتهاء بمسرحياته: «ملك القطن»، «اللحظة الحرجة»، «الفرافير»، «المهزلة الأرضية»، «الجنس الثالث»، القاهرة، و «البهلوان»، إلى جانب مقالاته الكثيرة التي كانت تحوي رؤى فكرية، ونقداً اجتماعياً هو على درجة من النباهة والعمق.

أجرى عبدالوهاب الأسواني اللقاء مع إدريس بعد عودته من الولايات المتحدة الأميركية التي خضع فيها إلى عملية في القلب. لم يفقد حيويته. السؤال الأول كان ملغَّماً بالاستفزاز؛ أو هكذا بدا للقارئ، وإن لم يبْدُ لإدريس.

الأسواني: قالت الشائعات إن فترة المرض حوَّلت الكاتب الكبير إلى متصوِّف يرى الله في داخله، ثم جاءت كتاباتك الأخيرة شبه مؤكِدة لهذه الشائعات. فماذا عن رد هذه التهمة؟

يوسف إدريس: (...) الذي لا يرى الله في داخله، ليس فقط هو غير متصوِّف أو غير مؤمن، ولكنه غير إنسان بالمرة، ولست من أولئك الذين يحبون أن يتحدثوا عمَّا يؤمنون به، فأنا في داخلي معمل إيمان لا يتوقف عن البحث والتنقيب، والتجريب والرفض، والعدول والقبول.

معملي هذا غير ملتزم بإصدار نشرة دورية عن أحدث ما وصل إليه! وأعتقد أن الشائعات صيغت بهذه الطريقة كي أبدو في نظر الناس كأني لم أكن مؤمناً بالله، ثم آمنت به أخيراً بعد المرض!

ماهية الفن... ماهية الحياة

من بين الأسئلة التي وردت في الحوار ما يتعلق بدخول إدريس في تجربة كتابة المقال التي برز فيها، والملاحظات التي وصلت إليه، أو لنقل الطلب بالكف عن كتابة هذا اللون، والتركيز على القصة والمسرحية. هذا يقود إلى مسألة «العزف على العاطفة البشرية» في مقابل العزف على العقلانية المحضة»، وهنا مكمن التناقض والخطر على مشروعه الأهم الذي عرف به، كما يرى الأسواني. رد إدريس تناول قضايا عدة من بينها: أن الكتابة ليست فقط شكلاً فنياً. والكاتب في عصرنا الحديث هو المنبّه لقومه... المقلق... الموحي... هو الذي إذا نام الناس صحا، وإذا صحوا نام، وإذا انحرفوا يميناً اتجه يساراً، وإذا سدروا في يساريتهم توسَّط أو أيمَنَ. إنه الضابط للحركة... البوصلة... العازف على الناس إذا كان للحكمة ناي.

القضية الثانية هي «أنني لا أكتب بناء على تحديد دقيق لوظيفتي في الحياة، فلست أعرف لي وظيفة غير محاولة مساعدة الآخرين ليساعدوني، وحين أرى عقل أمتي هو الغائب فلا أفكر لثانية واحدة في أي شيء سوى أن أعتبر نفسي مجنّداً (...)».

مضيفاً ضمن هذه الرؤية بأنه إذا كان «عقل أمتي في خطر، فلتذهب جميع الأشكال الفنية القصصية والروائية والمسرحية إلى الجحيم. الكتابة ليست هزلاً، وإذا كنا قد دلّلناها وأسميناها أدباً أو فنوناً جميلة، فأعتقد أننا فعلنا هذا عن تخلف شديد في إدراك، ليس فقط ماهية الفن ودوره في الحياة، بل ماهية الحياة ذاتها وقيمتها. الكتابة عمل خطير. إنها العقل والوجدان والروح تنسكب على الورق (...)».

الخطيئة والحرام

في مسألة الخطيئة... في مسألة الحرام، محور أحد الأسئلة في الحوار ورد نصاً كالآتي: قلت مرة، إن مشكلة «الخطيئة» مشكلة أجنبية غريبة علينا، ومع ذلك نعالجها في أعمالنا الفنية، بينما المشكلة التي نقابلها في مجتمعنا هو «الحرام»، والفارق دقيق بين الخطيئة والحرام، ولكنه أساس، ثم دارت مناقشة جانبية في الندوة نسيت بعدها أن تقول لنا عن هذا الفارق.

كان رد إدريس وقتها: الخطيئة بشكلها المسيحي تتضمن أن الإنسان كائن خاطئ بطبعه. وقد جاء الإسلام ليغيّر هذا المعنى، ثم طوّرت المدارس الإسلامية هذا التغيير إلى فكرة «الحرام»، ومعناها أنه ليس هناك خطيئة أبدية ولكن هناك أفعالاً حلالاً وأفعالاً حراماً، وهذا الفهم أكثر عدلاً بالنسبة للإنسان وأكثر تحرراً لإرادته.

لكن أغرب ما في الأمر أن الديانة المسيحية - وفقاً لتعاليم السيد المسيح عليه السلام - ترفع هذه الخطيئة عن كاهل الإنسان باعتبار أن السيد المسيح قد حمل عن البشر خطاياهم كلها، بينما ارتدّت المذاهب الأوروبية المسيحية إلى فكرة أن الإنسان كائن خاطئ أساساً لتستطيع أن تحكم قبضتها على الناس.

إشكالية إدريس في كل ما يكتب، بعضِّ النظر عن التصنيف، تكمن في أنه يعمل على تنبيه العقل بالتفاصيل من حوله. العناوين تعنيه، لكنها تظل تختزل الفهم، ولا تمنح العقل والمخيلة خيار تنشيط الطاقة التي يمتلكها كل من العقل والمخيلة. دوره؛ حتى في البسيط مما يتناول، ولا يعود بسيطاً بعد ذلك، بل يصبح مركّباً، في أن يستدرج كلاً من العقل والمخيلة للقيام بدورهما كما يجب، وذلك يعني في المحصلة: ألا يفهم الإنسان دوره في العالم فحسب؛ بل أن يكون في الصميم من ذلك الدور.

لا نحتمل الحزن طويلاً وكذلك الفرح!

في كتاب يوسف إدريس «اكتشاف مارة» قام بتحليل الشخصيتين الألمانية واليابانية. قال، إن «الأول تتحّكم فيه عقدة التفوق، بينما مركّب النقص هو الذي يتحكّم في الثانية»، وفي السؤال: ما أهم مزايا وعيوب الشخصية العربية في رأيك؟

يوسف إدريس: الشخصية العربية تختلف عن الشخصيتين الألمانية واليابانية... هي شخصية - كما يسمّونها في علم النفس - الاكتئابية المرِحة... تتردّد باستمرار بين المرح والاكتئاب. نحن لا نحتمل الحزن طويلاً. في حالة حزن إذا مرحنا، وفي حالة فرح إذا حزنّا.

أهم عيوب الشخصية العربية هو التعقّل... نادراً ما نصاب بالجنون... نكتئب حقاً حين تسوء الظروف، لكنها لا تجنّ... لا تجد عندنا أحداً ينتحر مثلاً. هذا العيب نفسه هو الميزة. نحن شعب عاقل جداً لأنه متوازن. وهذا هو السبب الذي جعلنا نعيش كل هذه الآلاف من السنين - تحت أسوأ الظروف - دون أن نفقد شخصيتنا... دون أن ننتحر.

عقود طويلة بين رؤى إدريس عن الشخصية التي لا تنتحر بكثرة وقتها. اليوم بات الانتحار أحد أهم سمات الشخصية العربية، بالمتغيرات التي حدثت، وبموجات التكفير المضادة للتفكير، والإنسان عموماً. لم يقتصر الانتحار اليوم على الفعل الفردي؛ إذ يتطلب مثل ذلك الفعل الذي نشهده يومياً، أن يأخذ الانتحاري معه طابوراً من البشر، حيث يذهب هو إلى «الجنة» التي اخترعها في رأسه، بينما يطمئن إلى أن الذين أخذهم في طريق انتحاره، سيكون مقامهم الدائم في «النار»!

وحديث إدريس عن أننا شعب عاقل ومتوازن، لم يعد كذلك في بحر العقود الثلاثة أو تزيد بعد رحيله؛ إذ لا مكان للعقل أساساً كي نتحدث عن التعقّل، ولا مكان للاستقرار كي نتحدث عن التوازن. نحن أمام ممارسات يومية من الجنون الذي بات جزءاً من ملامح الحياة العربية في جهاتها الأربع!

خريطة الكتاب

ضم الكتاب في باب المقالات إسهامات لكل من: صلاح عبدالصبور «معنى الحداثة والمعاصرة في الأدب»، الطيب صالح «رحلة إلى باريس الشمال»، نزار قباني «نزار قباني يتحدث»، فدوى طوقان «»تجربتي الشعرية بين القديم والحديث»، محمد جابر الأنصاري «من أجل تفاعل بلا عقد بين المشرق والمغرب»، ومحمد العربي الخطابي «قنوات الثقافة بين المشرق والمغرب». وفي باب الحوارات إلى جانب إحسان عبدالقدُّوس ويوسف إدريس: «يحي حقِّي: أدبنا يعاني من الميوعة والسطحية»، حديث مع المخرج صلاح أبوسيف»، «لويس عوض: النقد الأدبي الصحافي محدود القيمة الفكرية»، «فنجان قهوة مع توفيق الحكيم»، «نجيب محفوظ: أدبنا الحديث ينقصه الموضوع والشكل»، «عبدالوهاب البياتي: مشكلتي هي وقت الفراغ»، لقاء مع نجيب الريحاني، «آخر لقاء مع شاعر الشباب أحمد رامي: أنا ابن الحزن»، آخر حوار مع صلاح عبدالصبور، حوار شامل مع جبرا إبراهيم جبرا.

وفي باب النصوص احتوى كتاب الذاكرة على مساهمات كل من: على المك «كرسي القماش»، جمال عبدالملك «الكوكب البلُّوري»، فؤاد قنديل «اشتياق»، إبراهيم أصلان «حفنة نور»، محمد زفزاف «صيد الثعابين»، فدوى طوقان «حكايات أخرى أمام شبّاك التصاريح»، نجيب محفوظ «خطة بعيدة المدى»، فاروق شوشة «يقول الدم العربي»، وإبراهيم أصلان «وردية ليل».

غلاف الإصدار
غلاف الإصدار




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً