العدد 4923 - الأحد 28 فبراير 2016م الموافق 20 جمادى الأولى 1437هـ

بيوت بلا سقوف وحُجَر بلا جدران

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قبل أن يظهر البارود كان البشر يتصارعون بأدوات أخرى في الحرب. كانت السيوف والحِراب والنبال وغيرها هي المهيمنة على ذلك الجيل من الحروب. وهي أدوات «في أغلبها» لا تجعل المتحارب يبتعد عن خصمه أزيد من متر أو مترين في أبعد المقاييس إلى أن ينفضَّ الاشتباك أو يفنى أحد الطرفين.

وقبل أن تظهر تلك الأدوات كان صراع البشر قائماً على اشتباك الأيدي، الأمر الذي يجعلهم صدراً بصدر. فمَن كانت لديه جثة أكبر وعظام أسمك ودهاء أوفر استطاع التغلب على خصمه. وقد بيَّنت تلك الصورةَ الكتبُ التي تحدثت عن الحضارات القديمة وتحديداً في الصين وآسيا الوسطى.

لكن عندما تطورت فنون القتال وأدواته أصبح الميزان الفعلي للقوة «افتراضيّاً» بشكل كبير. إذ لم يعد صاحب الجثة الأكبر ولا المعروف بالشجاعة والبسالة هو «بالضرورة» القادر على حسم المعركة لصالحه بقدر ما باتت أدوات الصراع وأسلحته في أغلبها هي الحاسمة وليس شيئاً آخر.

هذه هي المعادلة. فكلما قلّت تلك الأدوات وقلّ تطورها أصبح ميزان القوة حقيقيّاً أكثر؛ لأن الغَلَبَة لا تكون بوسيلة إضافية على ما يملكه الجسم والعقل من قوة ومهارات، بل الحسم باللحم الحي أو في أقصى الأحوال بما تيسَّر وتوافر من أدوات بدائية، والعكس في ذلك أيضاً صحيح.

فحين يقنص الجندي شخصاً من بعيد فهو لا يعكس أبداً أن القاتل أقوى من المقتول من حيث البُنيَة البدنية والقدرات العقلية. لذلك نجد مثلاً في بعض حوادث القتل التي جرت في الولايات المتحدة الأميركية أن طفلاً صغيراً أو صبيّاً يقتل عدة رجال بواسطة مسدس يقع في يده.

ولو تخيلنا أن الرجل الأبيض لم يأتِ بباروده إلى الأميركيتين (العالم الجديد) لما استطاع هزيمة اللاكوتا ولا الساموسيتيين أو السكوانتويين ولا بقية شعوب الهنود الحمر الطيبين الذين مدّوا أيديهم إلى القادمين من انجلترا قبالة السواحل الشرقية لولاية مساتشوستس (حاليّاً) العام 1621م.

ولو مددنا البصر أكثر إلى حيث هذا الفضاء الذي بات مليئاً بأقمار التجسس الاصطناعية فماذا يمكننا أن نتصور قدرة الدول من دون تلك الأقمار؟! إنها حتماً ستفقد نصف قوتها على أقل تقدير. فهي تراقب العالم وناسه عبرها بشكل لا يتخيّله أحد، فتُرسل الطائرات من دون طيار لتغتال أهدافاً محددة، كما يجري الآن بين وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وتنظيم «القاعدة «في اليمن وغيرها.

مناسبة هذا القول هو الندوة التي عُقِدَت على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن في فبراير الجاري عن مستقبل الحروب ودور الآلات فيها ضمن مدار الحروب الالكترونية. ليس المقصود الآلات المُجرّبة اليوم من غواصات ودبابات وطائرات، بل تقنيات وبرمجيات دَأبَ الإنسان على استخدامها بشكل مدني في بيته ومكتبه وسيارته. وهو أمر قد لا يتصوّره البعض الآن، لكنه حتماً في طريقه إلى التحقق.

في صحيفة الـ «واشنطن بوست» يذكر ديفيد إجنيشس حديثاً لـ إسبن بارت آيد، وهو وزير خارجية سابق للنرويج، بشأن السلاح المستقبلي الذي سيُهيمن على العالم يقول فيه: سيتم «تحديد الموقع على الكرة الأرضية» مع «التعرف على الوجوه والذكاء الاصطناعي بحيث يمكن تحويله بواسطة البرمجة إلى قناص إلكتروني» فتقوم الآلات بوظيفة متعددة الأغراض من بينها الاستهداف!

رئيس منظمة «هيومان رايتس ووتش» كينيث روث، المهووس بمسائل حقوق الإنسان طرح موضوع «الروبوتات القاتلة» كخيار لحماية حياة الناس من وجهة نظره. فبالإضافة إلى ذلك فإن مثل هذا النوع من الجنود «لا يتعب ولا يخاف وستكون أحكامها أو تقديراتها متّسقة» على حد قوله.

المشكلة في كل هذا الأمر هو أن المجتمعين يتحدثون بجدية عن 30 مليار شريحة إلكترونية «مدمجة في السيارات والمصاعد والثلاجات والثيرمومستات والأجهزة الطبية» والمباني يمكنها أن تتبادل المعلومات بشكل آلي ببرمجة معينة دون تدخل البشر فيها، بحيث يُدمج عملها مع أجهزة الاستخبارات التي ستتلقى البيانات التي تبعثها تلك الشرائح!

وقد تحدث مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية جيمس كلابر صراحة قبل ذلك للكونغرس عن ذلك قائلاً: «إن أجهزة الاستخبارات قد تستخدم إنترنت الأشياء للتعرف والمراقبة والرصد وتعقب المواقع والاستهداف بغرض التجنيد أو للنفاذ إلى الشبكات أو بيانات اعتماد المستخدم».

لذلك فهم لا يناقشون مسألة خصوصية الأفراد حين يتم فعل ذلك بل يناقشون أمن البيانات التي سيتحصّلون عليها. فقراصنة الكمبيوتر سيكونون قادرين على سرقة البيانات واللعب في أرقامها، ومعلوماتها وبالتالي العبث في الأسواق وأي شبكات كهرباء أو طاقة تكون موصولة.

هذا الأمر يبدو مرعباً حقّاً. إذْ كيف سيعيش البشر وظلال المراقبة تحيط بمضاجعهم ومأكلهم وحركتهم في كل مكان يذهبون إليه؟! إن ذلك يعني أن الناس سيسكنون بيوتاً بلا سقوف ولا جدران. فالبيت سيصبح بلا غِماء والحجرة بلا حاجز، وبالتالي فهم سيُرجَعُون عراة رغمًا عنهم.

ليس ذلك فحسب، بل إن هذا النوع من التكنولوجيا سيُفكك معنى القوة المادية التي من المفترض أن تكون حكراً على الدولة التي هي كيان يدير بقعة جغرافية ومجموعة من البشر حين ستذهب لكل مَنْ سيكون قادراً على الدخول في معركة كهذه للسيطرة على المعلومة.

فالمنظمات المسلحة في العالم لم تعد قدراتها كتلك المنظمات التقليدية التي عرفها العالم، كالدرب المضيء والألوية الحمراء وغيرها، بل باتت تمتلك من القوة التي مكّنتها من استخدام السلاح الكيماوي، وإدارة شبكة آمنة من الطاقة والمال، فضلاً عن الهيمنة على الأرض. هذا ليس تطوراً بقدر ما هو سحق للهويات الفردية وخصوصيات الناس ومفهوم أوسع للهيمنة من المتوحشين في هذا العالم.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4923 - الأحد 28 فبراير 2016م الموافق 20 جمادى الأولى 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 12:49 ص

      عندما صُنع المسدس قال الصانع الان يستوي الجبان والشجاع.
      سيد حسين

اقرأ ايضاً