يطرق وزير الثقافة والفنون والتراث القطري، حمد بن عبدالعزيز الكواري، موضوعات وقضايا الثقافة والدبلوماسية والتراث والفنون والأدب، من داخل فضاء الاهتمام والملاصقة والتجربة والمُعاينة؛ مانحاً إياها عمقاً بالمحصِّلات الناتجة عنها، والدروس التي يمكن الاستفادة منها، واستلهام المضيء والفارق والحيوي والمؤثِّر فيها.
يطرق موضوعات الثقافة، من موقع المسئول الذي تولَّى تقديمها إلى المحيط والإقليم ومن ثم العالم. الثقافة لا باعتبارها واجهة تتخذها بعض الدول لسد عجز ونقص، بل باعتبارها ركناً ركيناً في بنية الإنسان أولاً، ورافعة لكثير مما يرتبط بها من اقتصاد واجتماع وسياسة.
يتناولها باعتبارها أيضاً القادرة على فهم العالم، إذا ما أرادت أمة... دولة... وحتى الفرد أن يعرف موقعه من العالم، ويبحثها باعتبارها أسلوب حياة في صورة أو أخرى.
ويأتي من بين أولويات تلك الثقافة الحوار بين الثقافات نفسها «بوصفه حيِّزاً لبناء التفاهم بين البشر، ومدخلاً للسلم المنشود».
وهو يطرق الموضوعات تلك لم يفتْه أن يقدِّم تصوُّره لعلاقة الثقافة بالصناعة «من خلال مفاهيم جديدة تسود عالمنا اليوم في قبيل الصناعات الإبداعية ورديفها الصناعات الثقافية».
ولن تكون الفنون على مبعدة من كل ما سبق ذكره. يتناولها هنا باعتبارها الرؤية والبصيرة جنباً إلى جنب الثقافة بمفهومها العام والمفتوح وغير المُؤطر. باعتبار الفنون نافذة تطل عليها الأمم والمجتمعات على درس التأمل والتجلِّي والخلق والإبداع؛ ما يترك أثره على رؤيتها للحياة، وحسّ تعاملها مع العالم من حولها.
الدبلوماسية... التقارب والإدراك
وفي الكتابة عن الدبلوماسية، يأتي إليها الكواري وهو ابن الممارسة المباشرة، سفيراً ومندوباً دائماً، وأحد صنَّاع التقارب واستقرار العلاقات بين وطنه (قطر)، وبقية دول العالم، فهماً واستيعاباً وإدراكاً لقيمة العلاقات في بناء مجتمعات مستقرة؛ ما يمكِّنها من الالتفات إلى تراكم منجزاتها وتعميقها.
وفي هذا السياق لم ينسَ الكواري التنويه إلى إبراز ما في التفاوض متعدِّد الأطراف من أساس ثقافي ينهض عليه.
وفي الحديث عن التراث تذكير بالأسس التي تقوم عليها أي ثقافة لها حضورها وارتكازها وتأثيرها في العالم اليوم، باعتبار ذلك التراث هو الرافعة والأسس التي منحت الثقافة الماثلة اليوم تجذُرها وقدرتها على الاستمرار، واستعدادها للدخول في حوارات معمقة، ونظر هادف وأصيل مع الثقافات الأخرى، بكل الإرث الذي تمثّله أو تتمثَّله في عالم اليوم.
والأدب في عمومه، حاضنة وفضاء لتقريب كل ذلك في النص... كتابة وتقديم رؤية وطرق معالجة. منبع تقديم أي رؤية في صياغاتها، ذلك ما يجده الكوَّاري أحد المفاتيح المهمة والرئيسة في تقديم مجموعة الرؤى والأفكار التي تضمَّنها الكتاب.
في سلاسة الأسلوب وسهولته وامتناعه في الوقت نفسه، يجنِّب الكواري نفسه والقارئ، وهو ابن ثقافات ثلاث: العربية التي هي امتداده الطبيعي وتأسيسه، والإنجليزية من حيث التحصيل العلمي في الولايات المتحدة الأميركية، والفرنسية التي يتقنها كأحد أبنائها، يجنِّبه استعراض الثقافات بكل ثقلها المنهجي، من خلال لغته السلسة والسهلة والممتعة والممتنعة.
ذلك الجمع أتاح له قدرة وفضاء تحرُّك، واستلهاما، وقبضاً على المرجعيات تلك وتوظيفها بما لا يتعارض مع التأسيس، ولا يشذ عنه، من دون أن يؤسس لقطيعة، انغلاقاً على الثقافة الواحدة، والتأسيس الواحد.
ثم هنالك وضوح الطرح وتماسك الفكرة، وعمق التناول الذي يمكن الوقوف عليه في فصول الكتاب التي تشكِّل وحدة مستقلة في ظاهرها، ولكن لها امتداد ورابط بين مجموعة الأفكار تلك.
البوصلة: الرهان الثقافي
في المقدمة التي حملت عنوان «البحر والصحراء والبوصلة: الرهان الثقافي»، يبتعد الكوَّاري عن الحال التوصيفية، تاركاً لنفسه التجول والانتقال بين رؤيته إلتي تنتقل بين زمنين... تنبثق عنهما ثقافة واحدة، استرجاعاً لنصوص، ووقوفاً على تأملات المكان، وترحالاً «بين كلام مُعتَّق قديم تشكَّل منه جزء من ثقافتي وذائقتي الأدبية، وبين خطاب العصر الذي وضع الأخَوَان لوميير النواة الأولى لنحوه وبلاغته، استعارة جذَّابة دالَّة عمَّا نعيشه في عالمنا اليوم».
في حديث عن النشأة في ثقافة التمست العدل والمسئولية الاجتماعية والارتكاز إلى الأخلاق في أسمى معانيها وقيمها. تلك هي البوصلة التي أشار إليها، تلمُّساً للوضوح، وضبط الهدف، من دون أن يعني ذلك ضمان تحييد أمواج تدهم، وأعاصير تُباغت.
في انتقال بين السفينة والطوفان: أداة تحمُّل في محيط يستقر وقتاً، ويموج أوقاتاً أخرى.
في الحديث عن الديانات السماوية التي بزغت من محيط صحراوي، حيث التأمل، لا الوحدة فقط. ذلك الانشداد إلى العلو والارتقاء بهمَّة الروح.
التساؤلات التي ينثرها في ثنايا تلك الرؤية تحمل الكثير من قيمة عمقها، والاستدراج إلى إعادة النظر في واقع قائم اليوم، تنقصه الحياة من دون تلك الهمَّة والسعي والمثابرة.
الوقوف على نص الحاصل على جائزة نوبل في الأدب، الروائي الفرنسي جان ماري لو كليزيو (ولد في مدينة نيس في 13 أبريل/ نيسان 1940، وقضى سنتين من طفولته في نيجيريا، وقام بالتدريس في جامعات كل من: بانكوك، بوسطن، مسكيكو سيتي. اشتهر في العام 1980 بعد نشر رواية «الصحراء» التي اعتبرتها الأكاديمية السويدية تقدِّم «صوراً رائعة لثقافة ضائعة في صحراء شمال إفريقيا)، بتوصيفه الشعري العميق لرجال الصحراء، والمكان الذي يشكل عالمهم الأثير «الريح تمرُّ عليهم ومن خلالهم وكأن لم يكن هناك أي شخص في الكثبان». عائداً بالقارئ إلى حيث المرامي والأهداف التي يتشوَّفها وإليها يتطلَّع. إنه الرهان في الثقافي «رغم تقلُّبات السياسة وما يحكمها من مصالح. فالثقافة عندي صنو للمسئولية الأخلاقية والاجتماعية في السياسات الداخلية والخارجية والوطنية والدولية».
في الخصوصية والكونيَّة
يأتي الكوَّاري إلى موضوع الخصوصية والكونية من فهم لدور كل منهما، والتجسير الذي لابد أن يكون حاضراً وماثلاً. إنه فعل الاستيعاب وليس المحاولة وحدها. ضمن منظوره، يرى الكوَّاري أن مظاهر كثيرة تدل على أن الثقافات الخصوصية «استوعبت المنتوج الثقافي الصناعي، وهضمتْه بإدراجه في بيئتها وسياقها»، لسبب يبدو ذا صلة بالمجموع البشري في الدائرة الواحدة؛ إذا تحدَّثنا بتجاوز حتى مفهوم القرية الكونية، وصولاً إلى «الصالة أو الغرفة» الكونية، وذلك ما يصوغه وزير الثقافة القطري بقوله: «السر في ذلك أن المواد الثقافية ليست مجرد بضاعة محايدة مثل غيرها تُستهلك ولا تترك في النفوس أثراً بل هي من حيث تعريفها ترفض التنميط وتصنع بالضرورة الاختلاف والغيرية».
يرتكز الكوَّاري في طرحه هنا إلى «الغيرية» وما أسماه النزوع إلى «ترسيخ الاختلاف المُخصَّب»، ذلك هو الذي يكشف المفهوم والنظر المغلوط في استسهال طرح وتناول الخصوصية في الثقافة، التي تذهب في كثير من تجلياتها إلى الانغلاق بدعوى التحصين، فيما الثقافة تلك أسيرة جمودها وركودها؛ ما يمهِّد مع مرور الوقت إلى اضمحلالها وتلاشيها.
ضمن ما يتناوله الكوَّاري الزعم السائد بأن «الحداثة بأصولها الغربية، نزَّاعة من جهة أخرى إلى إدخال الجميع في جلباب واحد»، بينما هي في واحد من مرتكزاتها وميِّزاتها هو «الانفتاح والرغبة عن التنميط»، ذلك الذي لا يتيح لأي ثقافة أو حداثة أن ترى أبعد مما أنجزته وحققته، تمهيداً للدخول في دورة جديدة من الانغلاق الذي يحدُّ ولا يمنح أفقاً أو فضاءَ انطلاق.
ومن التجربة والمعاينة والالتصاق بعدد من التجارب، يرى الكوَّاري أن «كل ثقافة تُدرِج بأسلوب خاص بها المنتج الثقافي المعوْلم في سياقها الخصوصي».
كل ذلك في معرض حديثه عن اختيار الدوحة عاصمة للثقافة العربية في العام 2010، والتحديات التي سبقت ذلك العام من خلال حوارات تم إجراؤها مع الوزير، ولم يداخله شك من أن الدوحة ستقدِّم نفسها إلى العالم، وهي مستندة إلى تراث راسخ وعريق، واستلهام للتجارب الحداثية في توازن ملفت، مع بنية تحتية أهَّلتها لأن تكون من العواصم العربية ذات التأثير الكبير في مسار الثقافة العربية المعاصرة.
الاستكشاف الجمالي للعالم
لا ينأى هذا الفصل عن توظيف الذكريات في تقديم وصفة تتيح الوقوف على تجربة الدبلوماسي والمثقف الكوَّاري. الانطلاق من تلك الذكريات يتيح أيضاً العروج إلى طبيعة الأمكنة وأثرها على التكوين الثقافي للفرد. من القاهرة حيث كانت له محطات دراسية، كان الانفتاح على الأعمال الروائية، تلك التي تشكِّل الوعي في جانبه العميق والمتعدد، باعتبار الرواية نموذجاً لعصارة الخبرات والمعارف والنظر، يتيح شكلها وأسلوبها فرصة للالتحام بها وملازمتها، على عكس الألوان التعبيرية الأخرى التي كثيراً ما تتسم بالصرامة والجدَّة. وله هنا رؤية ترد في الفصل نفسه «اعتقدت لفترة من الزمن أن الكتب بوصفها أوعية للمعرفة حمَّالة للقيم تُصنَّف في خطَّين متوازيين لا يلتقيان البتَّة: خط الكتابات المُنتجة المُثرية المفيدة، وخط الكتابات المسلية الخيالية. بيْد أن هذين الخطَّين التقيا بفضل زوجتي التي جذبتْني إلى الرواية جذباً فانسقت إليها انسياقاً حتى عدَّلت من عقيدتي شيئاً فشيئاً إلى أن استحكم في قلبي حب الأدب الروائي».
يتناول الكوَّاري جوانب من الرواية التاريخية، ويذهب في استدعاء ملامح منها من خلال الأثر العربي، ملفتاً الانتباه ومُذكِّراً بالمتن السردي العربي القديم، وذكاء التقاطه وتوظيف جوانب منه في عدد من الأعمال المعاصرة، وفي محصِّلة تجربته يرى أن الأدب يقدم لنا معرفة «بالإنسان لا تحيط بها لغة المفاهيم العلمية، ولا يفصِّلها التحليل العقلي، ففيه سر يجعل القارئ يفرح ويحزن ويتفاعل تعاطفاً وكرهاً ليرى في نهر المداد صورته أو أجزاء من تلك الصورة».
يُبرز الكوَّاري في الفصل نفسه عناوين مثل: المجاعة المزرية ومأدبة المعرفة، نداء الروح، الزفرة والدعوة، في الحداثة والتقاليد، في رحلة من التأملات والاستشهادات بأعمال قبل أن ترى النور، ورؤية أصحابها في عدد من القضايا والمفاهيم، مع مداخلات من مؤلف الكتاب، في قدرة لافتة على استدعائها والحوار معها، والخروج بخلاصات منها، وفي الصميم من كل ذلك يتناول المدن الثقافية التي كان لها حضور وأثر وتأثير، ومتاحف مهمة موزعة على عدد من مدن العالم الكبرى، باعتبارها الشاهد الحاضر، والوعاء الأمين لمنجز فني وفكري وإبداعي، يربط الجنس البشري بحقب تاريخية قدَّمت خلاصة ما تفتق عنه عقلها وخيالها.
خريطة الفصول الأخرى
احتوى الكتاب في فصله الثالث على مناقشات معمَّقة ومقاربات لمكان التواصل الأول الذي عرفته منطقة الخليج العربي، والخصائص التي عرف بها (المجالس أو الديوانيات)، والقفزة النوعية التي طرأت على العصر بتحول وسائل التواصل الاجتماعي إلى شكل من أشكال المجالس، مع فارق واقعية الأولى، وافتراضية الثانية. الفصل حمل عنوان «من المجلس إلى الميديا الجديدة». وهو إذا يتناول مجموعة المفاهيم تلك، ومن واقع تجربته، وتسلُّمه لعدد من المسئوليات، إنما يقدِّم خلاصة التجربة في حدود تمثُّل الجديد والمهم والفارق فيها.
يتناول الفصل الرابع من الكتاب، وتحت عنوان «الدبلوماسية الثقافية»، ابتداء الوحدة الثقافية القائمة والراسخة بين دول مجلس التعاون الخليجي، وهو من المعطيات التي تؤكدها «أشكال التعبير الثقافي المتشابهة ووحدة الدِّين واللغة والتقاليد»، كما يُبرز الكوَّاري رؤيته التي تتحدَّد في «أن العناية بالثقافة في المنظومة الخليجية هي مصدر قوَّة للكيان السياسي المنشود، وصيغة مُثلى للاستثمار في الإنسان الخليجي، بما يخرجه من صورة (الإنسان النفطي) المُختزلة التي أُلصقت به».
أما الفصل الخامس فحمل عنوان «المشاروات: ظاهرة ثقافية»، و «الحوار بين الثقافات»، هو محور وعنوان الفصل السادس، و «التربية طريق إلى الحرية»، عنوان الفصل السابع. أما الفصل الثامن فحمل عنوان «الصناعات الإبداعية»، وتناول فيه صوراً ونماذج من الاقتصاد الإبداعي، الذي يشمل المنتجات السمعية والبصرية والتصميم، ووسائل الإعلام الحديثة، والفنون التعبيرية والنشر والفنون البصرية، والتي رأى المؤلف أن ذلك الاقتصاد «لا يشكِّل أحد القطاعات الأكثر سرعة في النمو في عالم الاقتصاد فحسب، بل هو كذلك قطاع يتمتع بقدرة عالية على التحويل من حيث توليد الدخل، وخلق الوظائف، وحصائل الصادرات».
كتاب ممتع، يأخذ القارئ إلى أكثر من رحلة، وأكثر من فضاء مليء بالخلق والإبداع والحيوية وعمق التجارب التي لابد من تمثُّلها واستلهام الرائد واللافت منها.
ضوء
يُذكر أن حمد الكوَّاري، رجل دولة قطري. عمل سفيراً لبلاده في لبنان وسورية في الفترة ما بين 1972و1979، وفرنسا في الفترة ما بين 1979و1984، كما كان مندوباً لدى «اليونسكو»، وسفيراً غير مُقيم في إيطاليا واليونان وسويسرا، ومندوباً لدى الأمم المتحدة في الفترة ما بين 1984و1990.
كان سفيراً لبلاده في العاصمة الأميركية (واشنطن) في الفترة ما بين 1990و1992، وسفيراً غير مقيم في الأرجنتين وكندا والبرازيل.
شغل منصب وزير الإعلام والثقافة في الفترة ما بين 1992و1997، وفي العام 2008 عُيِّن وزيراً للثقافة والفنون والتراث، كما يشغل حالياً منصب رئيس مؤتمر الأمم المتحدة الثالث عشر للتجارة والتنمية (الأونكتاد) حتى انتهاء مهمته في العام 2017.
يُتقن الكواري اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، ويحمل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة ولاية نيويورك (ستوني بروك) 1990.
من مؤلفاته: «جدل المعارك والتسويات» (2001)، و«المعرفة الناقصة» (2005).