العدد 4919 - الأربعاء 24 فبراير 2016م الموافق 16 جمادى الأولى 1437هـ

حضرموْت صناعة وطنية خالصة لانفتاحها على المحيط الهندي

في بحث «الهجرة اليمنية الحضرمية إلى إندونيسيا» للجعيدي...

جانب من أشكال المعمار الحضرمي
جانب من أشكال المعمار الحضرمي

في الكتابة عن الهجرة اليمنية الحضرمية إلى إندونيسيا، وقوف على التغييرات الهائلة التي أحدثتها مثل تلك الهجرة وذلك التواجد في ذلك الجزء من العالم في جنوب شرق آسيا، وهي تغييرات لم تمسَّ بنية الحياة المادية والظاهرة، بقدر المسِّ الذي طال البنية الثقافية ودخل في تشكيلها، بل والتأثير عليها.

وبالاتكاء على كتاب «السلطان علي بن صلاح القعيطي 1898-1948 ونصف قرن من الصراع السياسي في حضرموْت» لكل من: محمد سعيد القدال وعبدالعزيز القعيطي، يشير الأكاديمي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر المساعد في كلية الآداب بجامعة حضرموْت، عبدالله سعيد الجعيدي، في بحثه الذي وُسم بـ «الهجرة اليمنية الحضرمية إلى إندونيسيا بين الهوية والاندماج»، ونشر في دورية «ثقافات» في عددها الثاني والعشرين للعام 2009، والتي كانت تصدر عن كلية الآداب في جامعة البحرين، إلى أن الهجرة الحضرمية صناعة وطنية حقيقية لأنها تُحرِّك أكثر من 25 في المئة من السكَّان، والقسم الأكبر يتجه إلى جزائر الهند الشرقية.

في البحث يأخذنا الجعيدي إلى فضاء آخر يتلمَّس مدى الأثر والتأثير الذي طال الهوية في الدرجة الأولى، والقدرة على الاندماج في المجتمع الجديد الذي تتبدَّى بينه وبين المجتمع الحضرمي خصوصاً، واليمني عموماً فوارق كبيرة لا تحتاج إلى كبير جهد للوقوف على أهم ملامحها وتفاصيلها.

يبدأ الجعيدي بحثه بالإشارة إلى الهجرة وعلاقاتها بالمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي لا يمكن عزلها في سياق البحث عن تنامي ظاهرة الهجرة. وفي تناوله للأهمية التاريخية للهجرة اليمنية الحضرمية، يوضح أنها حركة اجتماعية عامة نابعة من مجمل الأوضاع التي يعيشها المجتمع اليمني، من بينها ما حدَّده المؤرخ اليمني محمد عبدالقادر بامطرف في كتابه «الهجرة اليمنية» الصادر في العام 2001، بعامل تجاري، أو فرار من الأوبئة والمجاعات والفتن العشائرية وجور الحكَّام، أو السعي خلف المقر الأفضل على أقل تقدير، مشيراً الجعيدي إلى أنه أصبح من المتداول في المقولات عن حضرموْت بأنها بيئة طاردة لسكَّانها. ويرى أن جانباً منها فيه الكثير من الصحة، مُعلِّلاً ذلك بأن حضرموْت تتوزّع طبوغرافياً بين الصحراء القاحلة والوديان والجبال والسهول الجبلية والسهل الساحلي، ولهذا فإن أهم صادرات حضرموْت هو رجالها المهاجرون.

حضرموْت: موطن الهجرات الأول

وبالاستناد إلى كتاب كل من دانيال فان در ميولن وفون فيسمان الذي حمل عنوان «حضرموْت إزاحة النقاب عن بعض غموضها»، يورد الجعيدي «ولأن هجرة الحضارم في مجملها نابعة من قرارات فردية، فإن أولويات دوافع الهجرة تختلف باختلاف الظروف التاريخية، والمكونات الثقافية والاجتماعية للأفراد»؛ إذ أخذت أعداد كبيرة من الحضارم تتسرَّب منذ قرون إلى مناطق محدَّدة داخل اليمن، والحجاز وإلى مصر وسورية، وخلال القرون الحديثة إلى الهند وجزر الهند الشرقية. في استنتاج أو ربما تقرير يشير إلى أنه من بين كل أجزاء الجزيرة العربية فإن حضرموْت هي موطن الهجرات الأول.

الجانب الطبوغرافي له دور كبير في تشخيص جانب من ظاهرة الهجرة، ذلك الذي يشير إليه الأكاديمي الجعيدي، استناداً إلى ورقة بعنوان «اليمنيون في المهاجر الإفريقية - هجرة الحضارم... الدوافع... الاستيطان... التأثير» للباحث عبدالرحمن الملاحي، بإشارته إلى أن هجرة اليمنيين الحضارم إلى ما وراء شواطئهم الجنوبية عبر المسافات التاريخية يستتبع الإشارة إلى أن المساحة البحرية المحصورة بين الشاطئ العربي الجنوبي والشاطئ الهندي الغربي والإفريقي الشرقي تمثّل لازمة من لزوميات تلك الهجرة، وهي الرقعة المعروفة عند الجغرافيين بحوض المحيط الهندي. وفَّرت تلك المساحة لليمنيين الحضارمة فرص الاتجار الذي كان من أبرز مظاهر النشاط في المحيط الهندي، والمظهر الذي حمل في أعطافه جميع المظاهر الدينية والثقافية والحضارية؛ فضلاً عن الهجرات.

ويبرز الجعيدي فضاء النشاط الذي تحرك من خلاله الحضارمة في تجارتهم بنقل السلع الهندية والصينية، من خلال أسطولهم التجاري، ليمتد نشاطهم إلى إقليم ناتال في جنوب شرقي إفريقيا وإلى جزيرة تيمور في جنوب شرقي آسيا، وإلى خليجيْ العقبة والسويس في شمال البحر الأحمر.

الهجرة النوعية

لم تُحدث الهجرات التي قام بها البسطاء ممن لا يتحلَّون بمستوى تعليمي ملفت، أو ممن ينتمون إلى عائلات ذات حضور ومكانة ووجاهة في حضرموْت، لم تُحدث ذلك التأثير أو التأثر بالمجتمعات التي وفدوا عليها. حدث ذلك من خلال ما يسمِّيه الجعيدي الهجرات النوعية؛ إذ برز بين فئات المجتمع الحضرمي «فئة معينة من السكَّان هم رجال الفقه والدِّين»، علاوة على أن بعض مدن حضرموْت قامت بدور كبير باعتبارها مراكز للمعرفة في العالم الإسلامي؛ وخاصة مدينتيْ سيئون وتريم «وبينما نجد أن معظم الذين هاجروا من مناطق اليمن الأخرى في القرن التاسع عشر كانوا من أبناء الريف المستعدِّين لأي نوع من أنواع العمل العضلي، فإن النسبة الأكبر من الذين هاجروا من حضرموْت ينتمون إلى الصفوف المتعلمة الذين انتقلوا لنشر الدعوة ولخلق الثروة بعملهم الذهني أكثر من عضلاتهم، ومن ثم كانت نسبة الأثرياء من المهاجرين الحضارم أكثر ارتفاعاً؛ بحسب ما يرى أحمد القصير في كتابه «اليمن: الهجرة والتنمية».

مشيراً الجعيدي في بحثه إلى أن الهجرة الحضرمية مثَّلت عنصراً من عناصر الامتدادات الثقافية ذات التأثيرات المتبادلة. «فقد خرج الحضارم من مناطق معيَّنة من بلادهم، وتكثَّف نشاطهم في المحيط الهندي وبلدان الشمس المشرقة»، وهو ما دفع الرحَّالة البريطاني سير ريتشارد بيرتون إلى القول: «من المعلوم أن الشمس لا تشرق على أرض لا يوجد فيها رجل من الحضارم».

ذلك الحضور والوجود في بلاد بعيدة عن وطنهم الأم استدعى من الحضارم المُجرَّدين من الحماية والسلْطة أينما حلُّوا أن يشقُّوا طريقهم بأنفسهم داخل التركيبة الاجتماعية والسياسية المحلية في المنطقة التي استقبلتهم «لذلك صاهروا سكَّان هذه المجتمعات، وأسَّسوا عائلات ارتبطت إلى حدٍّ ما ببلدهم عبْر صلة الدم».

مؤثِّرات الهجرة إلى إندونيسيا

يبدأ الجعيدي في هذا العنوان من بحثه بذكر التباين الذي انتاب تحديد أولاً متى وكيف دخل الإسلام إلى إندونيسيا؟ ضمن جانب من رؤية أوروبية ترى أن الإسلام دخل إليها عن طريق الهند، أما المستعرب الهولندي فان دي بيرخ، فيميل إلى أن البحَّارة والتجَّار العرب هم الذين أدخلوا الدِّين الإسلامي إلى أتشي وبالمبنج أولاً ثم في القرن الثالث عشر الميلادي إلى جزيرة جاوا.

وصل الحضارمة إلى جزائر الهند الشرقية في أواخر القرن الثامن الميلادي؛ بحسب ما يذكر صلاح البكري في كتابه «تاريخ حضرموْت السياسي»، وفي كتاب الباحث علوي الحدَّاد «المدخل إلى تاريخ الإسلام في الشرق الأقصى»، يذكر أن المسلمين وصلوا إندونيسيا في أواخر القرن السابع الميلادي في عهد الخليفة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه.

حمل الحضارمة معهم في الموطن الجديد الانقسام الذي وسم التراتبيات التي كانت سائدة في مناطقهم، تلك التي تتحرك أفقياً «في سلَّم اجتماعي معيَّن»، مشيراً إلى أن هذا الانقسام قام على أساس عامل الدور والوظيفة الاجتماعية لهذه الشرائح، وعلى هذا الأساس ترتَّب السكَّان إلى شرائح وفئات على النحو الآتي: السادة، المشايخ، القبائل، فيما الفئات الأخرى يمثلها: الفلاحون، العبيد والخدَّام.

وبالاتكاء على كتاب «السلطان علي بن صلاح القعيطي 1898-1948 ونصف قرن من الصراع السياسي في حضرموْت» لكل من: محمد سعيد القدال وعبدالعزيز القعيطي، يورد الجعيدي بأن الهجرة الحضرمية صناعة وطنية حقيقية لأنها تُحرِّك أكثر من 25 في المئة من السكَّان، والقسم الأكبر يتجه إلى جزائر الهند الشرقية. موضحاً أن عدد المهاجرين الحضارم ازداد في الجزر الإندونيسية بسهولة المواصلات، وازدياد مواليدهم. «فمعروف أن الحضارم لا يصطحبون زوجاتهم في مهاجرهم، ولأنهم يقضون الجزء الأكبر من حياتهم في مهاجرهم، فقد تزوجوا من النساء المحليات، وهكذا ظهرت في جاوا ما يسمَّى بالمولّدين أو الحضارم المهجَّنين»، في إحالة إلى كتاب م. أ. رودينوف «عادات وتقاليد حضرموْت الغربية (العام والمحلي في الثقافة السلالية)»

الهجرة والتثاقف مع الآخر

بتأصُّل ثقافة الهجرة لدى الحضرمي، كان لابد أن ينتج عنه تثاقف مع الآخر في البيئة الجديدة، وقد تتعدَّاه إلى الانصهار في بوتقته. يبيِّن الجعيدي بأن الترابط والاندماج العربي بشكله الإيجابي لم يُقدَّر له أخذ مداه الطبيعي المتوازن «لأن السلطة العليا في هذا المجتمع للمستعمرين الهولنديين الذين أصبح لهم مع تطور هذه العلاقات رأي آخر».

كان موقف الهولنديين خليطاً من التناقضات بين الخوف والرجاء. لم تعر السلطة الهولندية اهتماماً بالأقليات في الأرخبيل الإندونيسي، بداية الأمر. إلا أنه بعد ازدياد موقع العرب الحضارم في الأوساط الاجتماعية والحاكمة المحلية، وترسيخ حضورهم ووجودهم وتأثيرهم، علاوة على دعم ومشاركة بعض العرب للحركات الوطنية المناهضة للاستعمار الهولندي، وتصدِّيهم لحملات التبشير المسيحي، أوجد حالة فزع من العرب؛ ما أدَّى بهم إلى تغيير سياساتهم تجاه الحضارم.

قدَّم - وقتها - المستشرق الهولندي سنوك هورخروني مقترحات «ونصائح سرية إلى حكومته - كُشفت مؤخراً - للحد من الهجرة العربية»؛ إذ اقترح الآتي: إعاقة هجرتهم إلى إندونيسيا بشتى الوسائل وعرقلة إجراءات من يصل منهم. تعقيد إجراءات الإقامة. وإجبار المقيم على الحصول على إذن مسبق عند مغادرته المدينة التي يسكن فيها إلى مدينة أخرى، بل من جزء إلى جزء آخر من المدينة نفسها.

ويوضح الجعيدي أن الحضارمة عانوا من هذه السياسة «وظلَّت شخصية العربي في نظرهم (الوقح والمُحرِّض) وصنَّفت قوانينهم العرب ضمن الأجانب الشرقيين، وماهت بينهم وبين الإسلام والعرب، ولم تقبلهم بوصفهم جزءاً من الدائرة الإسلامية الإندونيسية الكبيرة».

الهوية وتحديات الاندماج

في ظل التطوُّرات المتسارعة بسنِّ القوانين وتشريع التضييق على الحضارم، «جعلت المهاجرين يضعون لأنفسهم التساؤلات الآتية: من نحن؟ وما هي الخطوات العملية للتعامل مع هذه المتغيرات»؟ في خضم التصدِّي لتلك التساؤلات، ومحاولة التغلُّب على التحديات القائمة، ظهر ما عُرف بالنهضة الحضرمية التي ارتكزت على تأسيس الجمعيات والتعليم الحديث والصحف، وخلال ثلاثة عقود نشأت عشْر هيئات وجمعيات عربية في إندونيسيا.

ويشير الجعيدي إلى أن التحدِّي الأهم الذي زلزل المجتمع الحضرمي هو ظهور جمعية الإصلاح والإرشاد، والرابطة العلوية، وانقسم الحضارم إلى جناحين كبيرين من حيث قوة التأثير وهما: الإرشاديون والعلويون. «وكان الباعث إلى هذا الانقسام والتنازع سبباً كما يبدو عديم الأهمية وهو حق غير العلوي في الزواج من العلوية» إذ أفتى السيد العطَّاس بعدم شرعية هذا الزواج، وأرسلت الفتوى للشيخ محمد رشيد رضا الذي عارضها.

ويخلص الجعيدي في بحثه إلى أن هذا الانقسام لا يمثل إلا حيِّزاً ضيئلاً من مُجمل النشاط الحضرمي الإيجابي في إندونيسيا. «بل نجد وسط هذا الانقسام نفسه تنافساً مفيداً لإقامة المشاريع الخيرية مثل بناء المدارس والمستشفيات».

ملخص البحث

يورد الجعيدي خلاصة لبحثه يجملها في الآتي: اليمنيون والهجرة مفردتان تكادان تتلازمان عبْر مسافات تاريخية بعيدة. ويُعدُّ الحضارم أكثر أهل اليمن شهرة في الهجرة والترحال؛ وخاصة إلى الساحل الشرقي الإفريقي، ومناطق كثيرة من شرقي آسيا.

وإذا كانت الجغرافيا من أهم العوامل التي تشكِّل حركة التاريخ، فإن منطقة حضرموْت تُعدُّ صناعة جغرافية خالصة، ذلك لأن انفتاحها على المحيط الهندي عبْر بحر العرب جعل منها نافذة مفتوحة أثَّرت وتأثَّرت بما حولها من ثقافات وشعوب، لهذا ليس غريباً القول، إن جغرافية حضرموْت الثقافية تمتدُّ بامتداد مَهاجر أبنائها.

انتشر الإسلام في إندونيسيا تدريجياً، وكان الحضارم ممن أسهم بشكل بارز في نشره فيها قبل الاستعمار الهولندي لها. وفي هذا المهجر مارس الحضارم التجارة، وأسَّسوا لهم مركزاً تجارياً مهمَّاً، وكان لهم عند الأهالي تقدير وقبول، لما اشتهر به أكثرهم من الأمانة والميْل إلى السلام، ونبذ العنف.

وفي أثناء اشتداد المقاومة الإندونيسية ضد الهولنديين، واجه الحضارم تحديات كبيرة، سواء كانت في علاقتهم مع المواطنين، أو مع أنفسهم، فالهولنديون حاولوا من جانبهم شق العرى والروابط الإسلامية والاجتماعية بين الحضارم والإندونيسيين، في وقت ميَّز الحضارم أنفسهم عن التنوع الثقافي والإثني الإندونيسي، وحافظوا على نظمهم الاجتماعية المنقولة من الوطن الأم.

وفي غضون ذلك، ظهر في الحضارم جماعة مستنيرة اتصلت بالصحف العربية في مصر وسورية، وفي مقدمتها مجلة «المنار»، وتطلَّعوا نحو الحرية والتقدُّم، وشعروا بواجب التفكير في إصلاح أمورهم، ونتج عن ذلك انقسامهم إلى تيارين متصارعين، الأول محافظ يتمسَّك بتراث قديم ممتدٍّ لقرون، وتيار ناشئ يتطلَّع إلى جديد، بمعنى آخر، كان صراعاً بين ماضٍ قوي، وحاضر متنامٍ، وفي جوهره كان تعبيراً صارخاً لصراع الهوية والاندماج الحضرمي في المجتمع الإندونيسي.

عبدالله الجعيدي
عبدالله الجعيدي
تبلغ مساحة حضرموت ١٩٠ ألف كيلومتر مربع وتشكل ٣٦ ٪ من مساحة اليمن
تبلغ مساحة حضرموت ١٩٠ ألف كيلومتر مربع وتشكل ٣٦ ٪ من مساحة اليمن




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً