يمر الشرق الأوسط أمام منعطف مفصلي وتدهور كبير وفقدان لحالة التوازن؛ بسبب الحرب على سورية وتطور الأحداث الإقليمية التي أصبحت مشرعة على احتمالات دراماتيكية وسيناريوهات غاية في الخطورة، لاسيما مع توجه الأقطاب الدولية والإقليمية نحو المواجهة والمواقف المتصلبة، واستمرار التلويح بالتدخل البري في سورية بذريعة محاربة «الإرهاب».
أسوأ ما في الأمر القنبلة الموقوتة القابلة للانفجار في أي لحظة بحرب روسية - تركية، وخصوصاً بعد أن أسقط الجيش التركي الطائرة الروسية «سوخوي 24» في ديسمبر الماضي، وفشل الروس في تمرير مشروع قرار ضد أنقرة في مجلس الأمن، الأهم منه تداعيات الإعلان الأميركي-الروسي عن اتفاق هدنة توصلا إليه في خطط «وقف الاقتتال»، الذي يفترض أن يدخل حيز التنفيذ السبت القادم، ويجعل ميزان المعادلة يميل بشكل ظاهري نحو كفة على حساب كفة أخرى.
وقف الاقتتال ولكن؟
في التفاصيل لاريب أن عدة قضايا برزت في المشهد السياسي مؤخراً، ساهمت وعجلت وفق المتابعين بإعلان اتفاق «وقف الاقتتال» الذي تعثر لأسابيع؛ بسبب اختلاف الأقطاب الدولية وحلفائها حول تصنيف المجموعات الإرهابية التي لا ينطبق عليها قرار وقف اطلاق النار، ومنها بالطبع «جبهة النصرة» وحركات جهادية أخرى يصفها البعض بالاعتدال، فيما تصر موسكو وحلفاؤها على اعتبارها حركات إرهابية غير مستثناة من الاستهداف، التأخير أيضا بسبب صعوبة تحديد آليات المراقبة والضوابط والضمانات ورسم الخرائط وغيرها من قضايا تقنية تعكس وضعاً شائكاً ومعقداً، شكك فيه مولود جاويش أوغلو وزير الخارجية التركي بوضع الاتفاق قيد التنفيذ طالما استمرت الضربات الجوية الروسية، وخصوصاً بعد تصريح سابق للمتحدث باسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: «باستمرار قوات الروس وطائراتهم محاربة الإرهاب حتى أثناء التفاوض أو وقف الحرب على الجماعات الجهادية الإرهابية».
أول القضايا وأبرزها مؤخراً حادثة تفجير السيارة المفخخة التي استهدفت منطقة قريبة من البرلمان وقاعدة للجيش التركي وسط أنقرة، إذ اتهم فيها الرئيس رجب طيب اردوغان المقاتلين الأكراد السوريين بفعل التفجير، فهم الذين تسعى موسكو برأيه إلى تمكينهم من تشكيل حزام في مناطق الشمال السوري، ما يعني تهديد أمن وسلامة تركيا.
المفارقة إنه لم يتوان عن توجيه نقد لاذع لحليفته الولايات المتحدة على استمرار دعمها وتعزيز تحالفها مع «قوات حماية الشعب الكردية» للتصدي لمسلحي تنظيم «داعش»، في الوقت الذي تعتبرهم «إرهابيين»، كما احتج اردوغان على زيارة بريت ماكجورك الممثل الخاص للرئيس الأميركي للحرب ضد داعش إلى منطقتهم قائلاً: «كيف لنا أن نثق بك؟ فمن هو شريك، نحن أمام الإرهابيين في كوباني». في السياق نفسه، سربت معلومات عن احتمال إغلاق قاعدة «انجرليك»، وخصوصاً أن التقارير تشير إلى رغبة أميركية بإقامة اتحاد فيدرالي كردي يمتد من الحدود الشمالية السورية والعراقية بمحاذاة تركيا، فيما يستمر التشاور والتفاوض بين موسكو وواشنطن ويتكثف الحديث عن مستوى متقدم من التفاهمات التي أعلن عنها بإبرام اتفاق وقف اطلاق النار، وعليه هل نحن أمام بداية نهاية للحرب المدمرة التي أتت على الأخضر واليابس، أم هي بداية لتطورات معركة طويلة الأمد لاتزال تتفاعل عناصرها بفعل الضغوط التي تدفع باتجاه تغيير معادلات الميدان التي لم تنضج بعد لتسويات حاسمة؟
من هنا لاشك في أن النقد التركي للحليف الأميركي يكشف عن اختلاف الرؤى بين أنقرة وواشنطن تجاه الأزمة السورية وحلها، كما يعبر عن ماهية العلاقة المتوترة والملتبسة بينهما وحالة الإرتباك التي تعاني منها تركيا بفعل القلق والضغوط المتعلقة بوضعها ودورها الإقليمي، فهي تقصف المقاتلين الأكراد في الشمال السوري؛ لتمنع تمددهم وسيطرتهم على الحدود من جهة، وتعمل جهدها ومحاولاتها مستمية من جهة أخرى لوقف تمدد تحركات جيش النظام السوري العربي في الشمال، الأمر الذي دفع الرئيس بارك أوباما إلى شجب قصفها الأكراد، ومطالبة أوردغان بالتهدئة وضبط النفس، وتحذيره بأن حلف «الناتو» لن يقف معه في تقديم الدعم والانجرار للانخراط في الحرب السورية.
«لا» أميركية لتركيا
إذاً الرسالة الأميركية شديدة وواضحة في صراحتها فلا مصلحة لواشنطن بإرسال قوات برية تقاتل في سورية، كما إنها على ما يبدو لا تشجع تشكيل قيادة لقوات برية تتدخل في سورية بحجة محاربة الدولة الإسلامية، فهي بالطبع لها خططها وحساباتها التي تتفادى الانجرار إلى مستنقع حرب عالمية تتواجه فيها مع روسيا، وخصوصاً بعد إبرامها الاتفاق النووي مع إيران حليف روسيا، كما إنها ترفض المطالبات الملحة بتزويد المعارضة السورية المسلحة بأسلحة نوعية وصواريخ مضادة للطيران قد تساهم في تغيير موازين القوى، وجل خوفها وخشيتها أن يتسرب هذا العتاد إلى «داعش» و»جبهة النصرة» وغيرها من حركات الجهاد الإسلامي.
أما ثاني أبرز القضايا في المشهد السياسي فتتمثل بالتفجيرات الانتحارية الاستباقية التي نفذتها التنظيمات الجهادية الإرهابية في العمق السوري مؤخراً، وتحديداً في منطقة السيدة زينب بريف دمشق والتي وراح ضحيتها 83 قتيلا وأكثر من 200 جريح، فضلاً عن تفجيرات مدينة حمص التي خلفت ما يربو على 150 قتيلا. المراقبون يرون بأنها كشفت عن اختراق أمني عميق يؤشر على وجود خلايا نائمة يمكن استدعاؤها وقت الحاجة، وإن هذه التفجيرات جاءت رداً على الاستيراتيجية الأميركية الروسية الجديدة وخططها لإنهاء الأزمة السورية، وإعادة تشكيل خريطة المنطقة وجغرافيا النفوذ، فكل هذا وذاك عجل من التفاهم والإعلان عن اتفاق الهدنة الذي شككت بعض وسائل الاعلام بصموده؛ بسبب استمرار غارات الجيش النظامي السوري المدعوم من الطيران الروسي على مواقع «جبهة النصرة» والحركات الجهادية الأخرى ومحاصرتها.
خلاصة الأمر، يبين ميزان التفاهم الدولي أن الاتفاق على معركة محاربة «الإرهاب» هو سيد الموقف وأولوية الأولويات، وأن ضغوط موسكو وواشنطن على الحلفاء كبيرة لأخذ أدوارهم في هذه المعركة، وتجنب أي مغامرات سياسية وعسكرية تتخطى الخطوط الحمراء، فنتائج التفاهمات الأميركية-الروسية، وكما يفهم منها حتى اللحظة، تشي بتوازن مصالح يدفع باتجاه رسم حدود نفوذ القوى الكبرى والإقليمية المتعلقة بتواجدها في البحر المتوسط وخطوط إمداد النفط والغاز في المنطقة، وعليه فالحل السياسي لإنهاء الحرب على سورية لايزال قيد مسار مفتوح، لكن المؤكد رصده عبر وسائل الاعلام، خفوت الحديث عن إسقاط النظام السوري، والمجاهرة الأميركية برفض منح المعارضة السورية أسلحة نوعية وإقامة منطقة عازلة كما تطالب بها تركيا، ما يعنى أن القرار الأول والأخير أميركي - روسي بامتياز.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4918 - الثلثاء 23 فبراير 2016م الموافق 15 جمادى الأولى 1437هـ