في الحوار الذي أجراه الزميلان، رئيس التحرير منصور الجمري وأماني المسقطي، مع المفكر العالمي توني بوزان في «الوسط» بتاريخ (21 يناير/ كانون الثاني الماضي)، أوضح هذا المفكر حقَّ الأهمية القصوى للاستفادة من الوقت، وعدم إضاعته أو هدره باعتباره هو والعقل الصحي النظيف ركيزتين لتطوير ذهنية الإبداع والابتكار. ولعلَّ واحداً من مُثقفينا التكنوقراط، الذين كان لنجاحهم في ضبط الوقت دور محوري في نجاح مسيرتهم العملية والثقافية هو المصرفي صالح حسين، وقد تناول ذلك في كتابه الأخير»الطموح والإصرار... مذكرات»، كما أفرد له فصلاً تحت عنوان: «إدارة الوقت» في كتابه القيّم الهام «حياة في عالم المصارف».
وليس سرّاً أن شريحة كبيرة من المثقفين العرب، كتّاباً وقراءً، بات يؤرقها الآن أكثر من أي وقت مضى كيفية ضبط وتنظيم برنامجها اليومي والاستفادة من ساعاته بأكبر قدر ممكن، بحيث لا تضيع ولا ساعة من اليوم هباءً منثوراً، وعلى العكس من المثقف الكاتب فإن المثقف غير المتخصص في الكتابة هو الأكثر قدرة على تنظيم برنامجه اليومي، في حين تزداد معاناة المثقف الكاتب من هذه الإشكالية العويصة كلما تقدم به العمر، إذ ينطبق عليه أشد الانطباق قول الشاعر: «الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك».
وأحسبُ أنَّ الكُتّاب ممن لديهم التزامات وأنشطة متعددة سياسية أو أدبية أو دينية هم أكثر من ينتابهم القلق لضياع ساعات طوال من يومهم على حساب ساعات القراءة والكتابة والبحث العلمي، ولاسيما حينما يكون الكاتب ذا وظيفة أو مهنة تلتهم جُلَّ ساعات نهاره، أويكون أباً لعدد من الأبناء يشاطر زوجته في الكثير من تحمل الأعباء العائلية. أما الكاتب أو الباحث الغربي فهو أكثر قدرة على تنظيم برنامجه اليومي بكل بساطة، ولا يواجه مثل تلك الاشكالية التي يواجهها المثقف العربي، بالنظر إلى اختلاف طبيعة حياة وعادات المثقفين الغربيين، وظيفيّاً وعائليّاً واجتماعيّاً، عن حياة المثقفين العرب. وبالتالي فإذا ما استثنينا شريحة محدودة من كبار المثقفين والأدباء الكتّاب العرب التي تمكنت من تنظيم وقتها بين القراءة والنشاطين البحثي والكتابي من جهة والنشاط الاجتماعي والثقافي العام من جهة أخرى، فلعل كثرةً من الباحثين والكتّاب العرب يعانون بحرقة وألم شديدين من فقدان السيطرة على الوقت، وخصوصاً حينما يقعون تحت سطوة الانجذاب للعضوية في مؤسسات مدنية أوحزبية هم فاعلون فيها بإرادتهم مما يأتي على حساب التفرغ الكامل للقراءة والعمل البحثي والكتابي، ولذلك كم تتملكني الدهشة ممن يقبلون طواعيةً على هذه الاهتمامات المتشعبة في حياتهم ولا يشعرون بأن مستوياتهم الكتابية والبحثية مؤهلة لأن تتطور أفضل مما هي عليه لو انقطعوا للتفرغ التام للقراءة والكتابة وفي حقل واحد او اثنين على الأكثر.
تذكرني هذه الحالة التي يعاني منها المثقف العربي بمقولة شهيرة للقائد السياسي الحزبي والروائي الفلسطيني الكبير الراحل إميل حبيبي (ت 1996)، صاحب رائعة «الوقائع الغريبة لاختفاء سعيد أبي النحس المتشائل»، ففي الهزيع الأخير من حياته توصل إلى استنتاج حاسم، كروائي وناقد، وككاتب صحافي يرأس تحرير صحيفته الحزبية «الاتحاد» وكعضو في قيادة حزبه اليساري «راكاح»، باستحالة أن يحمل بطيختين بيد واحدة في آن واحد، على حد تعبيره، فقرر في الهزيع الأخير من حياته حمل بطيخة واحدة بالتفرغ الكامل للنقد والإبداع الروائي والتراث الأدبي، وتوقف عن النشاط الحزبي، بما في ذلك الكتابة السياسية في صحيفة الحزب وعدة صحف عربية في آن واحد، وكان أن أبدع بعدئذ في العمل الروائي والنقدي على نحو أجمل من السابق.
وبطبيعة الحال، فإن لضبط الوقت والتحكم فيه ضريبته، ومنها الاضطرار قسراً إلى التخفف من حق العائلة العربية في قضاء وقتٍ ممتعٍ كافٍ معها، وكذلك التخفف من العلاقات والمناسبات الثقافية والسياسية والاجتماعية، ومع ذلك تظل معاناة المثقف الكبرى حينما يجد نفسه بين نارين: الأولى، نار محيط أصدقائه الذين يكيلون له التُّهم الظالمة جزافاً بأنه منعزل عن محيطه الثقافي أوالاجتماعي أو السياسي متفرج من بعيد وغير فاعل في المؤسسات الثقافية أو السياسية والاجتماعية، والثانية، نار مُحيط أسرته التي تشكو هي الأخرى من عدم منحها وقتاً كافياً معه، فإن حظي برضا المحيط الأول لمهمته التي يقدسها وتأخذ من صحته، لم يحظَ برضا المحيط الثاني، والعكس صحيح، والمثقف المنحوس هو من يكتوي بنار كلا المحيطين في آن واحد في ظل انعدام أيّ تفهم لقُدسيَّة المهمة التي نذر نفسه لتكريس حياته لها والتي يعشقها كعشق المدمن لترياقه اليومي؛ لأنها بالنسبة إليه غدت أشبه بإكسير الحياة لخدمة وطنه وشعبه وأُمته.
وقصارى القول: لا مناص للمثقف العربي المحزون المحبط لضياع ساعات مهدورة من يومياته، بالنظر إلى خصوصية وطبيعة حياة الأسرة في مجتمعاتنا العربية، من اللجوء إلى سرقة سويعات من التزاماته العائلية وبرامجه الاجتماعية العامة، ومن دون أن يعني ذلك بالضرورة تخليه عن تلك الالتزامات والبرامج بالمطلق، بل الإيفاء بها ولو بالقدر الأدنى المقبول ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 4917 - الإثنين 22 فبراير 2016م الموافق 14 جمادى الأولى 1437هـ
مقال جميل يهز على الوتر عَل وعسى يساهم في اتخاذ قرارات جادة حول هذا الموضوع .. بارك الله في قلمك و وقتك و جهدك
لدينا في دولنا الخليجية غير
فأكثرهم برامجهم ترتبط بمصالح اصحاب النفود فالوقت مخصص في أكثره بالتمجيد بهم وحضور مجالسهم والوقت متوفر للمجاملات و النفاق الا مارحم ربي