رحل محمد حسنين هيكل عن عالمنا بعد أن ظلّ شاهداً على العصر على امتداد قرن كامل.

كُتب وسيُكتب عنه الكثير، صحافياً ووزيراً وصديقاً لعبدالناصر، وكاتباً لخطاباته وربما لكتابه «فلسفة الثورة»، وعن مواقفه وخياراته، وأسلوبه وانتشاره... ومدرسته الصحافية التي تخرّج منها المئات عبر العالم العربي، تعلّماً عن بعد. مدرسةٌ قامت على تقديم المعلومات في سياق مترابط، من التوثيق والاستدلال. وأهمّ ما قام به هيكل نقل الصحافة من مجرد نقل الخبر والمعلومة، إلى مهمة تدوين التاريخ.

عاصر الأحداث الكبرى في القرن العشرين، كما عاصره مئات الصحافيين الآخرين في زمانه، لكنه امتاز عنهم، إلى جانب موهبته وعبقريته، بملاحقة الأحداث والكتابة عنها وتتبع تفاصيلها ميدانياً. لقد بدأ مراسلاً حربياً، فكان شاهداً على نهاية الحرب العالمية الثانية، وبداية حرب فلسطين التي أعقبتها؛ والحرب الكورية وحرب فيتنام؛ وحروب شبه القارة الهندية (بين الهند وبنغلاديش وباكستان)، والثورة الإسلامية في إيران، وغزو الكويت واحتلال العراق وأفغانستان، وفي كلٍّ منها يقدّم لك موجزاً ثرياً لتاريخ هذه الدول.

من أهم ما قام به عربياً، أنه قدّم روايةً تاريخيةً لمسار الصراع العربي مع «إسرائيل»، منذ سقوط فلسطين، إلى «قصة السويس» 1956، فـ «الانفجار» 1967، فـ «حرب أكتوبر» 1973. لقد دوّن تاريخاً لأهم الحروب والوقائع في قلب المنطقة العربية، برؤية قومية ثابتة البوصلة ناحية فلسطين المحتلة.

كان يتمتع بنظرة بانورامية واسعة، يضع الخارطة أمامه وهو يكتب، فلذلك كانت نظرته تسع العالم ولم ينحصر في منطقة أو إقليم حتى لو كان بحجم وأهمية الشرق الأوسط. كان يعيش في إفريقيا، ولكن عينه كانت على آسيا، لاستيعابه ترابط القارتين الأزلي، ولإيمانه بنظرية ارتباط أمن مصر الأبدي بأمن الشام، وهو ما كان يدافع عنه منذ انفصال السادات عن العرب، حتى إعلان محمد مرسي الجهاد ضد سورية بشار الأسد.

كان يرى في آسياً عمقاً نضالياً لإفريقيا، ضمن حركة عدم الانحياز التي انطلقت من باندونغ بإندونيسيا، فترة قادة العالم الثالث الكبار: نهرو، سوكارنو، تيتو، عبدالناصر. والتقى بالكثير من رؤساء الدول الآسيوية: انديرا غاندي، شواين لاي، كاكوي تاناكا، سيهانوك، مجيب الرحمن، ذو الفقار علي بوتو. وهو لا يقدّم المادة تقريراً صحافياً بارداً، وإنّما يقدّمه في طبقٍ قصصي ممتعٍ جميل، فيلتفت إلى التفاصيل التي يهتم بها الروائيون: فيصف طريقة تقديم «الشاي الأخضر التقليدي في اليابان في فناجين عتيقة» أثناء دخوله للقاء رئيس وزرائها تاناكا. ويصف مروره بساحة غاندي على شاطئ نهر الغانغ، حيث كان «البرد قارساً... في نفس المكان الذي تلقى فيه القدّيس (غاندي) رصاصات منذ خمس وعشرين سنة. كانت الأشجار العالية عاجزةً أمام الرياح الباردة. وكانت السماء ملأى بسحبٍ تمتص كل شعاع دفء تبعثه الشمس وتلفه فلا يظهر منها إلا خيوط ولمسات في لون الورد. وكان هناك عشراتٌ يطوفون حول نصب الحجر المربع الذي يحمي رفات قديس الهند. وكانت أواني البخور الهندي تطلق دخانها...». فهذه ليست مقابلةً صحافيةً جافةً تقرأها في كتابه «أحاديث في آسيا»، وإنّما هي قطعةٌ أدبيةٌ من روايةٍ منحوتةٍ بفنٍّ وأناة.

لم يقتصر على آسيا، بل قابل في «زيارة جديدة للتاريخ»، خوان كارلوس، واندروبوف، ومونتجمري، وألبرت اينشتاين، ومحمد رضا بهلوي، وديفيد روكفلر. كان موسوعةً تحيط بالكثير من المعارف والعلوم، شاهداً حاضراً على عصره، ينظر إلى الخارطة من الأعلى.

يقدّم لك هيكل رواية تاريخية متماسكة، فيها الكثير من القوة والإقناع، مدعّمةً بالأرقام والوثائق، حتى في القضية الخلافية مع الصحافيين اللامعين التوأم مصطفى وعلي أمين، اللذين سجنهما عبدالناصر وأفرج عنهما وقرّبهما السادات، وهو ما يستدعي أن تكون حيادياً، باحثاً عن الحقيقة بين طبقات الضباب.

في 2003، ومع بلوغه الثمانين، أعلن اعتزاله الكتابة، وهي عمليةٌ شاقةٌ جداً على من امتهن الكتابة ومارسها يومياً، طوال ساعات الليل والنهار. ونجحت قناة «الجزيرة» في استقطابه للحديث مرةً أخرى، فسجّلت له حلقات كثيرة، ربما تابعها الكثيرون، ولكن من اعتاد على كتبه السلسة الممتعة، ربما لن تجذبه هذه الحلقات الطويلة التي يستعيد فيها كتبه، في أحاديث تتشعّب كثيراً ويخرج فيها الأستاذ عن المسار.

رحل هيكل، وترك مدرسةً صحافيةً كبرى، تخرّج منها آلاف المريدين واستمتع بحصادها الملايين؛ وكتباً ثريةً تمثل كنزاً مهماً لطلاب المعرفة وعشّاق السياسة في الوطن العربي.