من حين لآخر تجول بخاطري العديد من الذكريات عن العمالة البحرينية التي كان أغلبنا يراها ونحن صغار، كنت أجلس بجوار والدي - رحمة الله عليه - أتابع عمل البناء من الصباح الباكر وحتى منتصف النهار وربما لغروب الشمس وهو يؤدي عمله بمهارة ودقة، وكان العديد من أبناء العائلات البحرينية يعملون في مهن مختلفة.

كان البنّاء بحرينياً والنجّار بحرينياً والكهربائي بحرينياً والحداد بحرينياً والخياط بحرينياً وكانت عائلة الحلواجي مثلاً تعرف بصنعة الكهرباء، هذا بخلاف المهن العديدة المرتبطة بركوب البحر والصيد والغوص، وحتى هذه اللحظة مازالت بعض العائلات البحرينية العريقة تعرف بنفس هذه الألقاب التي تعود لمهنة الآباء في بدايات ومنتصف القرن السابق، فهذا الحواج وهذا الحداد وهذا الخياط وهذا البناء وهذا البحار وهذا النوخذة، وكان الجميع يتشرف بانتسابه لهذه المهن الشريفة والعريقة.

إذن، ماذا جرى في البحرين؟ لماذا هذا العزوف الكبير لدى الأجيال الجديدة عن مهن الآباء والأجداد؟ سؤال لابد أن يطرح على طاولة النقاش، أين وزارة العمل والمجالس النوعية للتدريب التي عملت لعشرات السنوات دون أن نستشعر تغييرات في تركيبة العمالة في السوق؟ أين مراكز التدريب الأخرى؟ أين وزارة التربية ودورها في التعليم المهني؟ أين مجلس النواب وتحفيزه على النهوض بالعامل البحريني وزيادة نسبة البحرنة؟ أين دور «الغرفة» و «تمكين» وغيرها من هيئات ومؤسسات تعمل لصالح الاقتصاد الوطني؟

أتذكر منذ فترة أنني التقيت سعادة الوزير جميل حميدان وزير العمل البحريني ودار معه حوار بشأن نفس هذه الفكرة تقريباً، وأشار إلى وجود العديد من الأفكار المتعلقة بتنمية مهارات وتدريب العمالة والفنيين البحرينيين في مختلف التخصصات، وأتذكر أيضاً أن الوزارة ستتبنى مشروعاً يمنح هؤلاء المتخصصين من العمالة المدربة الماهرة «بطاقات معينة» تفيد بخبرتهم وأنهم أجيزوا من قبل الوزارة أو الجهات الموثوق فيها التي تختارها الوزارة، وتفيد أيضاً بأنهم مؤهلون للعمل في هذا القطاع ولديهم القدرة على الصيانة والإصلاح وغير ذلك من مهارات، وهي فكرة ستريح بال المستهلك وتعيد الثقة للعمالة في السوق، بعيداً عن الفئات غير الموثوقة والتي تتلاعب بمصالح الناس أيضاً.

وأتمنى صراحة من سعادة الوزير أن ترى هذه الفكرة النور في أقرب وقت ممكن.

وقد ضربت له مثلاً بالعديد من المهن التي تفوق رواتبها المحاسب أو السكرتير أو الموظف الإداري، معلمي تدريب السياقة وفنيي إصلاح التكييف والمصاعد وبعض التخصصات في الطباعة وفي فنون البناء وغيرها، كل هذه المهن يحصل أصحابها على رواتب ممتازة جداً وأفضل بمراحل من العمل في وظيفة تدرّ عليه 300 أو 400 دينار بحريني فقط لا غير شهرياً.

وكيف كان البحريني بضميره السليم بعيداً عن أساليب الغش والخداع التي يقوم بها البعض في الفترة الأخيرة.

العمالة البحرينية كفوءة ولديها مقدرة سريعة على التعلم والإنجاز وأتمنى أن تأخذ حقها في السوق وهذا لن يتأتَّى بجهود الجهات الحكومية ولكن بالوعي والعلم والمعرفة، وهذا له عدة أوجه.

أولاً: يجب على العمالة البحرينية أن تتشرف بعملها ولا تتضايق منه، وتعلم أن بعض المهن أفضل لها عشرات المرات من العمل في الحكومة أو حتى في وظيفة إدارية باهتة في القطاع الخاص.

ثانياً: يجب أن يعطي المجتمع هذه العمالة حقها في التقدير والاحترام ويعلم أن المهني المحترف المحترم لا يقل مكانة عن الطبيب والمهندس والمحامي والمعلم، لأنه يؤدي دوراً إيجابياً كبيراً في المجتمع، وهذا ما يلقاه المهني فعلياً في العديد من المجتمعات الأوروبية الراقية التي تقدر كل محترف ومتمكن من عمله.

ثالثاً: أن توفر الحكومة الرعاية اللازمة لهذا القطاع وتساعده على تكوين النقابات والجمعيات التي تدافع عن حقوقه وترعى مصالحه.

رابعاً: يجب على الشركات الكبرى ورجال الأعمال المساهمة في تبني هذه الأفكار الوطنية التي ستنعكس على الاقتصاد في إجماله بشكل كبير، من خلال المساهمة في معاهد التدريب ومنح الفرص في شركاتهم وأعمالهم لهؤلاء العمال المهرة.

ويبقى السؤال: متى سنجد السوق البحريني عامراً بالعمالة البحرينية الماهرة... ونستعيد ذكرياتنا الجميلة مع أبناء الوطن؟