وَصَفَ زميلٌ زميلاً له قائلاً: «ليس صدراً مكتوماً وليس حنجرة محبوسة، بل العكس، فهو حضورٌ منشرح متهلِّل، وهو راوية حكايات مُشوّق، وروايته غنية بمؤثرات الصوت واللون والضوء. ثم إنه لمن لا يعرفونه سريع البديهة، خفيف الظل، مُقبِل على الحياة، لكنه على نحو أو آخر رجل تُداخله وساوس دفينة، تهيئ له على الدوام أنه لن يبلغ ما يريد وأن الظروف المحيطة به تعمل ضده».
الموصوف هو: الراحل بطرس بطرس غالي. والواصف هو: الراحل محمد حسنين هيكل. ومن العجب أن الفارق بينهما في «القَدَر» يكاد لا يختلف. فالموصوف توفي في الـ 16 من شهر فبراير سنة 2016م، والواصف توفي في السابع عشر من شهر فبراير سنة 2016م، أي أن الفارق بينهما هو يوم واحد. أما في العمر، فإن الفارق بينهما هو عام واحد. فبطرس مات عن 93 عاماً وهيكل مات عن 92 عاماً.
في كل الأحوال حديثي اليوم عن الموصوف الذي رحل عن عالمنا مؤخراً. عاش بطرس غالي حياة ملؤها التحدِّي. فهو مصري سليل عائلة مسيحية، ومتزوّج من يهودية نادلرية. وتاريخياً فإن جدّه بطرس غالي نيروز باشا قُتِلَ بالرصاص على يد شاب مصري بتهمة الخيانة! كيف: كان غالي رئيساً لوزراء مصر، وقد هَمّ بأن يُجدِّد للإنجليز امتيازهم في شركة السويس مدة 50 سنة فقُتِل.
كان ذلك التكوين الثقافي والسياسي لبطرس بطرس غالي قد جعله «رجلاً تُداخله وساوس دفينة، تهيئ له على الدوام أنه لن يبلغ ما يريد وأن الظروف المحيطة به تعمل ضده وأنها الغالِبة على مقاديره مهما فعل». فأن تعيش كمسيحي في محيط مسلم، وأن تتزوّج بيهودية وإسرائيل بجوارك وأن تمارس حياتك وجدّك مُتّهمٌ بالخيانة فهذا أمر عصيب على أيّ أحدٍ عاش نفس الظروف.
لكن الحقيقة أن مصر العروبة والسماحة لم تكن ضد بطرس غالي في يوم من الأيام، لأن بطرس لم يكن الرجل الذي يجعل مصر تقِف ضدّه، باستثناء فترة القوانين الاشتراكية التي صدرت في بداية الستينات، والتي سنّها عبدالناصر ضمن حزمة قوانين استهدفت تأميم المؤسسة الصناعية والخدمية في مصر.
عندما عاد بطرس غالي من الدراسة في فرنسا لم يجد صعوبة في أن يدخل سِلك التدريس الأكاديمي بجامعة القاهرة. كما إنه لم يجد صعوبة في أن يدخل الأهرام رئيساً لتحريرها الاقتصادي، ثم رئيساً لتحرير مجلة السياسة الدولية. وكان هذا المشوار عاملاً مضافاً لِمَلَكَاته الذاتية كي يصبح شخصية مصرية عربية لها دور في بناء مصر ومؤسساتها السياسية والتجارية والقانونية.
لذلك، لم يأتِ العام 1977م إلاّ وبطرس غالي وزيراً للمالية في حكومة ممدوح سالم. كان غالي ضمن جوقة من «التكنوقراط» الذين أنتجتهم القبطية المصرية. لكن وكما هي عادة الأقليات، عاش الرجل هَوَس الخوف من المجهول لذلك كانت صلته كوزير في الحكومة المصرية مرتبطة بأداء وظيفي بحت لا يتصل بأيّ مواقف سياسية قد تتوخاها الأحزاب المصرية تجاه القضايا الوطنية كمسألة التطبيع مع إسرائيل، لذلك كان غالي أحد الذين اختارهم السادات معه لزيارة القدس سنة 1977م.
لكن الحقيقة، أن غالي لم يُعرَف للكثير من المصريين فضلاً عن العرب إلاّ عندما شاءت الأقدار أن تُرشّحه القارة الإفريقية لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة، واستطاع نيل المنصب من بين رغبات قوية في الغرب وبالتحديد الولايات المتحدة الأميركية صوب صدر الدين آغا خان وبريان مالروني. كان هذا المكان هو الذي صنع اسم وشخصية وخاتمة حياة بطرس بطرس غالي كلها.
كانت الفترة التي تسلّم فيها الرجل أمانة الأمم المتحدة هي ما بين 1992م والعام 1996م. وكانت تلك الفترة إحدى أهم الفترات التي عاشها العالم، حيث مازال ركام تحطّم الاتحاد السوفياتي يرمي بغباره على المحيط، والولايات المتحدة الأميركية في نَهَمٍ عجيب للاستيلاء على العالم الذي بات خالياً من كابوس إمبراطورية الشر كما سماها ريغان، وبات الناتو يتبختر كالطاوس في شرق أوربا.
في تلك الفترة أيضاً، كان قطار السلام قد تحرّك أيضاً بين الفلسطينيين (والعرب عموماً) والإسرائيليين. وبمقاييس ذلك الزمن فإن هذا الملف هو ملف الأحياء والأموات في الشرق الأوسط، وكان الاهتمام به يعني الاهتمام بمنطقة تمتد من المغرب وحتى الخليج العربي. كما شَهِدت تلك الفترة بدايات دخول إيران كبلد فاعل في الإقليم والعالم عقب انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، وبعد الزلزال الكبير في المنطقة الذي خلفه احتلال نظام صدام حسين لدولة الكويت سنة 1990م.
لكن بالنسبة لي كعربي (ولآخرين كُثُر كما أعتقد) فإن مشوار بطرس بطرس غالي في هذه المؤسسة يمكن أن يُلتمّظ أكثر في الرشفة الأخيرة من أيامه فيها حين بدا أنه «أمين عام» مكروه لدى الأميركيين، الذين كانوا قد اشترطوا بالأساس على الفرنسيين قبولهم بترشيح الرجل شرط أن تكون ولايته في الأمم المتحدة مرة واحدة لا غير. لكن ما زادهم حقداً عليه هو موقفه ضد إسرائيل عقب مجزرة قانا في لبنان في الـ 18 من أبريل/ نيسان سنة 1996م والتي أدت إلى مقتل 106 مدنيين.
خرج بطرس غالي من تلك المؤسسة وهو خصمٌ لأعداء العرب. وعندما طُلِبَ منه التعليق قال: «كما في عهد الرومان، ليس لديهم دبلوماسية» فقوّتهم تعميهم عن الحكمة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4914 - الجمعة 19 فبراير 2016م الموافق 11 جمادى الأولى 1437هـ