يستمر الاشتعال العربي بينما كل دولة تتنافر مع الأخرى وكل مجتمع يتصادم مع تسلطية دولته في جانب ويتصادم مع فئات من مجتمعه لا تشبهه في جانب آخر، في كل مكان يخسر الجميع. سورية لوحدها تلخص الشرق كله، لكنها ليست الوحيدة، فمشكلة التفكك قائمة ومستمرة في إقليم بلا رحمة ومساومات ودون أفق واضح. وكلما أوشك طرف على حسم عسكري جاء آخر في مواجهته. في سورية كما في غيرها يشتد القتال في فترات، وتهدأ الجبهات في أيام، وترتفع وتيرة الحسم التي لا تلبث وأن تتبخر.
الحروب تشعل معها الطائفية والكراهية والانتقام والظلم والتهجير والعنصرية، هذه عناصر مفجرة لن تسمح لأحد بحسم حرب.
لا نهاية قريبة للحروب الراهنة في سورية واليمن والعراق وغيرها، ولن يعود شيء كما كان قبل كل هذه الحروب والانتفاضات والحراكات السياسية الشعبية، كتبت في السابق، الوعاء العربي كما عرفناه قبل 2011 انكسر بسبب جموده وركاكته، ولن ينجح أحد في إعادة بناء الوعاء ذاته بلا شراكات وفلسفة جوهرها الإنسان.
من يحاول فهم تاريخ الحروب يكتشف أنها نادرًا ما تنتهي كما بدأت، فالحروب تنتهي في معظم الحالات بالكثير من الموت والخسائر التي لم يتوقعها من بدأها. للحروب منطق يتجاوز فهم السياسيين وحساباتهم. فمعظم الحروب تقع بسبب أخطاء وقراءات تنقصها الدقة، بل إن معظمها كان بالإمكان تفاديها. ومن مسببات الحروب القادة السياسيون قبل العسكريين ممن يصعب إقناعهم بالانتظار أو التروي، وذلك لأنهم يجدون في الحرب الطريق الأقصر لحل مشكلة أكبر.
قليلة المجتمعات التي نجحت بعد رحلة طويلة مع العنف في إقامة نظام سياسي عادل وأفضل من النظام الذي ثارت عليه، وقليلة هي الدول التي انتهى تورطها في دولة أخرى بنتائج إيجابية. الثورات العنيفة بلا استثناء بنت أنظمة ديكتاتورية، كما حصل في مجتمعات شتى في القرن العشرين، والحروب في دول الجوار في معظم الحالات تنتهي بمزيد من الحروب.
لكن الثورات غير العنيفة والمحدودة العنف هي الوحيدة التي انتهت بتعظيم القدرة على بناء أنظمة تشاركية وديمقراطية وإنسانية. فمدرسة العنف يصعب عليها أن تساوم وتسمح للمعارضين والأحزاب، أما الثورات المدنية والحراكات السلمية فهي أكثر نجاحاً؛ لأنها تبنى على أساس التحالف والتنوع والحاجة إلى الشعوب لتحقيق هدف التغير.
تبرز بين العرب مدرسة جديدة من الممارسات غير العنيفة الجادة والمسئولة والهادفة إلى التغير السلمي، هذه المدرسة نجدها في الدول العربية التي لم تنزلق للعنف كما نستطيع رصدها في أعمال جنود مجهولين مدنيين في الدول التي تعيش عنفًا ممزقًا أو في الدول التي تعيش حالة أكبر من الاستقرار. في دول تعيش الحرب يقوم حقوقيون وممارسون مدنيون بأعمال الإغاثة ورصد انتهاكات الحقوق والتصدي للتجاوزات وتخفيف أثر العنف على الناس.
وفي الدول التي لا تعاني حروبًا مفتوحة، توجد درجات مختلفة من التعبيرات السلمية الفكرية والأدبية بل والروائية والمدنية الرافضة للظلم والفساد. حركة أطباء مصر، في الأيام الأخيرة نموذج لما نقصد من اللاعنف الهادف إلى تحقيق مطالب جادة وفرض استحقاقات سياسية مصدرها الشعب.
لقد صعدت في العالم العربي قبل 2011 مدرسة التغير بوسائل اللاعنف، لكنها تعززت أثناء ثورات 2011، كان العام 2011 أقل الأعوام عنفًا نسبة إلى دور «القاعدة» ومن يشبهها.
مدرسة العمل السلمي بدأت تستعيد رمقها ومكانتها بعد أن ساد العنف كل مكان وبعد ان أثبت عربيًّا أنه لن يؤدي إلى نتائج للحكومات ولا للمعارضات. سترفض الناس في النهاية، وبعد فترة العنف الراهنة عنف الأنظمة وعنف معارضيها بما في ذلك عنف السجون بلا ضوابط والقضاء بلا حياد، وملاحقة الناس بسبب رأي. سترفض الناس العنف الذي يحتل الأجساد ويشوهها، سترفض الاحتكار والطائفية والعنصرية وستصر على الحقوق والحريات. ستجد الأنظمة أنها قد أنهكت في معارك كان بالإمكان تفاديها.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 4913 - الخميس 18 فبراير 2016م الموافق 10 جمادى الأولى 1437هـ
هناك شعوب عربية سلكة طريق السلمية من أجل الحصول على الديمقراطية والمحافظة على أوطانهم من أجل كرامة اﻹنسان والعدالة والمساواة بين الناس ولكنهم قبول بالمزيد من العنف والقتل والسجن والتهجير من أوطانهم