في بداية القرن العشرين - بالتقريب وبالنظر إلى قلة المعلومات – وبالاستناد الى الروايات المتناقلة شفهيًّا جيلا بعد جيل يمكن القول ان قرية باربار من حيث المساحة المسكونة لا تتعدى حيا واحداً يتكون من مجموعة البيوت / العرشان المتراصة التي تفصل فيما بينها ازقة ومداخل ضيقة وطرق متداخلة ومتقاطعة. هذه البيوت والأكواخ كانت محاطة من جميع الجهات بمزارع وحقول أهل القرية. أما البنية العمرانية للقرية فكانت تتكون من ثلاثة أنواع من البيوت أو المساكن.
- العريش ويتم تشييده من السعف والجريد المعقودة بالحبال. وهذا سكن غالبية أهل القرية.
- البرستج ويتم بناؤه من السعف والجريد متداخلة بشكل افقي وعمودي ومربوطة بالحبال مع مراعاة ان يكون السقف على شكل جملون ومغطى بالسعف بشكل جيد ثم بالحصير الكبير المعروف (بالسمّة الجمع سميم). ويمثل هذا سكن بعض الأهالي من متوسطي الحال.
- الكبر. وهو يشبه البرستج إلا أن نصفه السفلي مبني من الحجر البحري (المرجاني) ومن الطين والجص، واستخدام الجذوع كركائز لحمل السقف المكون من السعف والجريد والمغطى بالحصير الكبير أو بحصير المشمع المعروف (بالطربال) المانع للماء والمطر. ويمثل سكن الفئة الأغنى بين الأهالي او الارستقراطية في القرية.
- الطيارة. وهي عبارة عن سقف من السعف قائم على أربع ركائز، وتستخدم عادة في الصيف، ويتم تشييدها في براحة البيت وهي مخصصة للجلوس خلال فترة المساء.
- المفوتح. وهو يشبه العريش وأطول منه –على شكل مستطيل -لكنه مغلق من جهتي الطول ومفتوح من جهتي العرض، لكي يتخلله الهواء، مع سقف مقوس الى حد ما ومساحات مفتوحة بين قوائم الجريد.
- الصريفة. وهي أشبه بالعريش مغلقة من ثلاث جهات، ومفتوحة من الجهة الرابعة. وعادة ما يتم انشاؤها على ساحل البحر لتقديم بعض الخدمات للعاملين في البحر.
واستمر الوضع على هذا الحال حتى بدأ الأهالي في تشييد المباني من الحجر البحري والجص خاصة والدنجل والبامبو وجذوع النخل من قبل بعض اغنياء القرية ابتداء من عشرينات القرن العشرين. وشيئا فشيئا أخذ ينتشر هذا النمط من البناء، لكن البيوت المبنية من السعف استمرت مع ذلك حتى مطلع سبعينات القرن الماضي.
لكن الأهالي عندما يأتي الربيع ويتلوه الصيف ينتقلون الى أطراف القرية بحثاً عن البرودة في الفضاء المفتوح، ويطلق على هذه الحركة الظعن، والمكان المظعن، إذ يقوم الأهالي ببناء عرشان جديدة تتناسب وحر الصيف، أو ترميم عرشان الموسم الماضي. ويتوزع الأهالي خلال موسم الصيف على مظاعن عديدة.
ومن المظاعن المشهورة: مظعن الجبلة في شرق القرية وشرق مسجد الخيس، او المنقولة، او الصديقات، او مظعن رفض الحسن، ومظعن مسكينة الدواسر، وابوساكن، ومظعن سرج الهوى، ومظعن مسجد الخيس بالقرب من مقبرة اليهود / حديقة القرية الآن.
وفي غرب القرية تقع مظاعن بالقرب من دولاب يتيم أو من منطقة الشريبة. وفي الشمال هناك مظعن بالقرب من البحر، ويوجد مظعن آخر في طرف القرية من جهة شمال غرب في محاذاة دولاب يتيم بالقرب من المرفأ البحري الحالي. بالإضافة الى مظاعن أخرى تقع في منتصف المسافة بين القرية حاليا والشارع العام أي من جهة الجنوب. واستمرت هذه العادة حتى نهاية الاربعينات، وأخذت تضمحل أمام الاستقرار في البيوت المبنية من الحجر والطوب، وانتهت بحلول السبعينات.
هذا على صعيد البنية المعمارية للقرية. اما على صعيد البنية الاجتماعية فإن المجتمع البرباري كان يتكون من مجموعة من العوائل الممتدة ترتبط في الغالب فيما بينها عن طريق قرابة الدم أو المصاهرة وكانت المصاهرات داخلية وخارجية. أما المجتمع فيتكون خلال هذه الفترة من ست فئات أو طبقات وهي:
- طبقة العاملين في البحر: وهم الغواصون ومن في حكمهم والبحارة ويمثلون فئة أو طبقة واسعة عدديا.
- طبقة العاملين في الزراعة: ويمثلون طبقة واسعة لكنها أقل من طبقة الغواصين.
- طبقة العاملين في المهن: وهم (الحرفيون)، وتشمل هذه الطبقة البنائين والمسجن (الذي يقوم بنشر جذوع النخل) والعمَّال – الذي يقوم بصناعة القراقير المصنوعة من السلك، والجدال (الذي يقوم بصناعة الحبال)، والنخلاوي المتخصص في تأهيل النخيل، والجصاص الذي يقوم بقلع الجص من المقالع، والحجار الذي يقوم بقلع الأحجار المرجانية والصفائح (الفروش) من البحر، والنساجين الذين يعملون في صناعة النسيج والأشرعة المعروفة بـ الباركة، والحطابين المتخصصون في اقتلاع الأشجار وتشريح أخشابها، الزبالين العاملين في جمع السماد للزراعة، وأخيراً حفاري القبور ومغسلي الموتى والولادات والحلاق (المحسن) والفصّاد. هذه الفئة مهمة حرفيا، لكنها محدودة العدد نسبيا.
- طبقة العاملين في التجارة: وهم فئة محدودة جدا مثل العاملين في البيع والشراء كالبزاز والبقال الجائل والخباز والصفار، هذا فضلا عن العاملين في الاستيراد والتصدير او مهنة (الشريطي).وقد كان بعض تجار القرية على علاقة بالتجارة البعيدة مثل الاتجار مع شرق إفريقيا عموما وسلطنة زنجبار خصوصاً، هذا فضلا عن عدن والهند.
- طبقة العاملين في مجال الثقافة: وتشمل الملايات / المطوعات اللاتي يقمن بتعليم الصبيان (الوليدات) القرآن الكريم ويحيين احتفالات الأعراس (الجلوات) وقراءة فواتح الأموات، والملالي وهم المطاوعة يقومون أيضاً بتعليم القرآن الكريم وبعض أصول اللغة العربية والشعر العربي، ويقومون بالخطابة في المناسبات الدينية، ومن بين هذه الطبقة شيوخ الدين والمؤذن.
- علية القوم مثل الوزراء المعروفين بـ (الكيخظة – يبدو أنها كلمة من أصل تركي). والاشخاص المرتبطين بهم وبتنفيذ القانون. وأيضا النواخذة.
هذه التراتبية الاجتماعية كانت محكومة بعلاقات اجتماعية تقليدية أبوية من جهة واقتصادية اجتماعية من جهة أخرى، حيث طبقة علية القوم بحكم ما تملكه من مكانة في التقسيم الاجتماعي للعمل تحظى بالسلطتين المادية والمعنوية. في حين أن الفلاحين والعاملين في الغوص والبحر يمثلون قاعدة الهرم أو الطبقة الأدنى. اما فيما يتعلق بالمرأة فتمثل الحلقة الأضعف في مجتمع قائم على الهيمنة الذكورية والأبوية في الوقت نفسه. ومع ذلك كان في القرية نساء كن يلعبن أدواراً مهمة أكثر من الرجال وخاصة بين فئة النساء الملايات، وكذلك أثبتت بعض النساء المسنات في العوائل الممتدة دورًا كبيراً في إدارة عوائل كبيرة ممتدة تتكون من عدد من الأسر، بما يشبه ما نسميه اليوم بالتدبير المنزلي.
لكن أيضا لابد من الإشارة إلى أن هذا التصنيف ليس حديا، بل يوجد تداخل بين هذه التصنيفات كأن يكون الأشخاص فلاحين وحرفيين في الوقت نفسه، أو يكونون غواصين في موسم، وحرفيين في موسم آخر. بحيث لا يوجد بعدُ تقسيم اجتماعي واضح للعمل بعد.
وفيما يخص البنية الثقافية فمن الطبيعي أن تكون بنية ثقافية بسيطة تتناسب ومجتمع قروي بسيط، لكن في طريقه الى الانفتاح. وتتمظهر الثقافة السائدة في الجوانب الآتية.
- تحفيظ القرآن الكريم، ويقوم بذلك نساء ورجال على حد سواء - تحت اسم المعلم او المعلمة.
- بعد تجويد القرآن الكريم يحاول البعض وخاصة البنات أن يكملن دراسة ما يعرف بالنسخة والوفاة، وهي تتعلق بسرد سيرة حياة الرسول ووفاته وما جرى من أحداث ووقائع، بالإضافة الى سير الائمة.
- بالنسبة إلى البنين والبنات الذين يرغبون في امتهان حرفة الملا / الخطيب أو القارئ فإن عليه ان يتتلمذ على يد شيخ او ملا سبقه الى هذه المهنة ويسمى في هذه الحالة بـ (الصانع) أي تحت التدريب. حتى يعطى إجازة من استاذه. ثم يستقل بنفسه ويصبح ملا أو يترقى إلى ان يصبح شيخا.
- وجود بيوت تتعاطى الثقافة عموما والدينية خصوصا وهي اشبه بالمنتديات بحيث يجتمع فيها الشباب الراغبون في التزود بالعلم والثقافة.
- وعادة ما يقوم بهذه المهمة رجال الدين أو بعضهم بحيث تكون بيوتهم أشبه بالمدرسة يتردد عليها طالبو العلم ويتم فيها دراسة بعض الكتب الفقهية الاثني عشرية مثل كتاب – الاستبصار وتهذيب الاحكام للطوسي – و – الكافي لابي جعفر الكليني وكتاب – من لا يحضره الفقيه لابن بابويه القمي – وغيرها من الكتب وخاصة في الحديث من قبيل بحار الانوار للمجلسي او الحدائق الناضرة للشيخ يوسف البحراني، هذا فضلا عن الادب واللغة، كألفية ابن مالك والاجرومية وشرح بن عقيل، او اشعار المتنبي او الشريف الرضي او المرتضى وغيرهم.
- وارتباطا بهذا الجانب وجدت بعض المهن المرتبطة بالثقافة مثل النساخين الذين ينسخون الكتب ويقومون بتجليدها.
والكلام عن الثقافة يستدعي الحديث عن البنية الاقتصادية. وهي بنية اقتصادية بسيطة تقليدية بمعنى أن الاقتصاد اشبه باقتصاد الكفاف القائم على الزراعة وحرفة الغوص والبحر بالدرجة الأولى وبعض الحرف البسيطة. والعلاقات السلعية كانت تستعمل أكثر من وسيلة تبادل. فكانت عملة القران متداولة في القرية الى جانب الروبية الهندية وربما عملات اخرى. يضاف الى ذلك كانت المقايضة أكثر انتشارا، وقد استمر هذا النوع من التبادل حتى نهاية الستينات عندما حل الدينار البحريني محل الروبية الهندية.
والحديث لا يقف عند هذا الحد، بل يشمل الثقافة الترفيهية التي كانت سائدة في الثلث الاول من القرن العشرين. وهي وسائل ترفيهية بسيطة تتمثل اولا في التزاور فيما بين الأهالي من النساء والرجال. وفي قيام بعض الوجهاء باستقبال الاهالي في مجالسهم وتقديم بعض الحلويات وخاصة التمر والقهوة المرة ، وفي الشتاء تقديم شاي الليمون الاسود ، ثم - حوالي بداية العشرينات تعرف الاهالي على الشاي الهندي / الاحمر والدارسين.
يضاف إلى ذلك وجود بعض الألعاب الترفيهية مثل لعبة الكلينة ولعبة الحلول / التيلة ولعبة الخشيشة، ولعبة الكونة، ولعبة الفيفيوه (الضلالوه) ولعبة اللقفة (الخبصة) ولعبة السكينة او السكونة، ولعبة الدوامة / الخذروف، ولعبة الشير والخط، ولعبة الصبة واشاه وهما لعبتان قريبتان من الشطرنج... الخ. وبطبيعة الحال تخصص بعض اللعبات إلى الاناث واخرى الى الذكور.
اما الشيء المهم في هذا السياق فهو احتفال القرية في مطلع كل ربيع بقدوم فصل الربيع واعتدال الجو بحيث يقوم شبان القرية بعمل مهرجان في الهواء الطلق يقومون بتمثيل بعض الأدوار المسرحية الترفيهية وبشكل ارتجالي، ويحتشد الحضور لمشاهدة هذا المهرجان، ويكون هذا اليوم يوما مشهودا في القرية، وهو يشبه الى حد ما المسرح الروماني. وقد استمرت هذه العادة حتى منتصف الثلاثينات.
وبنهاية الثلث الأول من القرن الماضي وبداية الثلث الثاني يمكن القول ان باربار بدأت تدخل في مرحلة أخرى حديثة، بحاجة إلى حديث آخر.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"العدد 4912 - الأربعاء 17 فبراير 2016م الموافق 09 جمادى الأولى 1437هـ
مقال جميل ولكن..
مقال جميل ولكن تحتشد فيه عدة مواضيع متنوعة مما لا يتيح المجال الكافي لكل موضوع.. بالنسبة لكاتب متخصص مثل الأستاذ يوسف كنت أتوقع منه مقال متخصص في موضوع بعينه كأن يفصل المقال طرق الترفيه والاحتفال فقط. مع كل الشكل لأبي يونس
اسم يفشّل
ليش ما يغرون إسم القريه لشي أحسن ؟ مثلاً ( أكسفورد ) أو ( اللورد أفبري ). أو...
شكرا اخ يوسف ربما لو حدثتنا عن فقهاء وشعراء القريه مع ذكر الاسامي
مقال رائع جداً بوصف دقيق و علمي ، لك كل التحية لهذا الجهد المتألق