هكذا أسدل الستار صباح أمس الأربعاء (17 فبراير/ شباط 2016) على صفحات تلك الحياة الحافلة الصاخبة المليئة بالأضواء... لأشهر كاتب عربي في العصر الحديث، بعدما امتد ظله ليغطّي أهم أحداث القرن العشرين.
بدأ مراسلاً حربياً يغطّي حرب فلسطين في الأربعينيات، لصالح صحيفة «إيجيبشن جازيت»، وكانت بوابته الأولى للارتباط الدائم بقضية العرب الكبرى: فلسطين.
هيكل مدرسةٌ صحافيةٌ قائمةٌ بذاتها، هو هرمٌ مصريٌ رابعٌ... لكن في مجال الصحافة. تميّز بأسلوبه الأدبي السلس الرشيق، وبغزارة معلوماته، وتنوّع مصادره. وخدمه في ذلك قربه من صانع القرار المصري، الزعيم جمال عبدالناصر، فقد أتاح له ذلك معلومات، والاطلاع على أسرار لم تكن لتتاح لسواه. كانت فترة عبدالناصر عصره الذهبي، فقد كان حافظ سره، وذراعه الأيمن، وصوته الإعلامي، والأهم... القائم على حفظ تراثه السياسي بعد رحيله، والمدافع عن إنجازاته ما صغر منها وما كبر.
هذه العلاقة أتاحت له فرصاً للسفر والالتقاء بكبار رجالات السياسة والفكر في القرن العشرين، من اليابان إلى الصين وفيتنام وأندونيسيا وبنغلاديش والهند وباكستان وإيران، إلى يوغوسلافيا وإسبانيا ولندن وفرنسا وواشنطن... ونشر مقالات وكتباً عن هذه اللقاءات الخاصة. هذه المعارف والعلاقات، واهتماماته الكونية، أعطته عمقاً وغزارة في الانتاج، وجعلته حقاً شاهداً على العصر.
معرفته باللغة الأجنبية أفادته كثيراً في الوصول إلى مصادر المعلومات في العواصم الكبرى التي تصيغ ثقافة العالم، لندن وباريس ونيويورك، والاطلاع على آخر التيارات الفكرية ووجهات النظر في مختلف الأحداث. كما توفّر على أرشيف شخصي ضخم، سواءً أيام رئاسته للأهرام أو بعد خروجه منها، ليعود إلى هذا الأرشيف لينهل منه، ناقلاً ومدقّقاً ومستشهداً. وحين أحسّ بالخطر في بعض أيام السادات، نقل أرشيفه إلى بلدٍ أوروبي ليضمن بقاءه.
عرفناه بداية اهتماماتنا بالسياسة نهاية السبعينيات، طلاباً في كلية الخليج الصناعية (جامعة البحرين لاحقاً). كنا طلاب هندسة وعلوم، وكنا نقرأ كتبه المتوفرة بشغفٍ واستمتاع آنذاك، مثل «حرب السويس» و»حرب أكتوبر»، وعن «السلام المستحيل والديمقراطية الغائبة»، و»لمصر لا لعبدالناصر». كان في تلك الفترة قد أُخرج بصورة غير لائقة، من «الأهرام» التي ترأسها لسنوات، كان خلالها ملء السمع والبصر... وخلّف ذلك التعامل الفظّ جرحاً غائراً في نفسه، ربما تجد بعض نفثاته فيما كتب في «خريف الغضب».
كان مقرّباً من السادات كما كان مقرّباً من عبدالناصر، لكنه اصطدم به بعد الخلاف على فك الاشتباك في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، في أعقاب زيارة كيسنجر للمنطقة. كان هو الذي يكتب للسادات بعض خطاباته، وهو الذي كتب مرافعة مصر السياسية أمام الأمم المتحدة في الحرب، لكن الخلاف بينهما كان قوياً إلى درجة الصدام، بما أوصله إلى «مفترق طرق» حسب وصفه. وهكذا أُخرج من الأهرام، ومُنع من الكتابة في مصر، فأخذ يكتب في بعض الصحف الخليجية. هذا المنع كان مثلاًً صارخاً لـ «ربّ ضارةٍ نافعة»، إذ فتح له أبواباً للكتابة في أشهر الصحف الأميركية والبريطانية واليابانية، فحاز على شهرة واحترام عالميين، بعدما كسبهما على مستوى الوطن العربي.
في ذروة الصدام مع السادات، ومع كل التضييق الذي ناله، كتب على ظهر أحد أغلفة كتبه بأنه أطلّ من غرفة مكتبه المطلة على النيل، ليشاهد الموكب الرسمي (الذي جمع السادات، بيغن، كارتر)، وشعر تحت وطأة الحزن بضرورة الرحيل وترك البلد، ولكنه بعد لحظة صفاء ذهني، قرّر ألا يرحل ويترك البلد لهم. لقد بقي هو ورحل الثلاثة بذكراهم السيئة في الأذهان، وبقي ذلك التصوير الجميل في ذهني طوال هذه السنين. وكانت خاتمة المطاف في هذه العلاقة المضطربة، أن أمر السادات في لحظة غضبٍ أحمق، بالقبض على جميع القيادات الحزبية والصحافية والدينية، اليسارية والإسلامية والقبطية، في ليلة واحدة عمّ ظلامها أرجاء مصر في 5 سبتمبر/ أيلول 1981، وكان من بينهم هيكل والبابا شنودة والشيخ الكفيف عبدالحميد كشك. كانت لحظة من لحظات الجنون انتهت بحادثة المنصة، التي ابتدأ بها عهد حسني مبارك، الذي كتب عنه آخر كتبه: «من المنصة إلى الميدان»، موثّقاً ساعة توليه الحكم إلى ليلة سقوطه في ميدان التحرير.
رحل هيكل... وترك مدرسةً صحافيةً ملهمة، وعشرات الكتب والمؤلفات القيّمة... التي سيبقى الكثير منها مصادر ومراجع للتاريخ السياسي العربي في العصر الحديث.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 4912 - الأربعاء 17 فبراير 2016م الموافق 09 جمادى الأولى 1437هـ
شكرا جزيلا استاذ قاسم على هذا المقال الرائع فى حق عملاق الصحافة العربية الراحل الأستاذ محمد حسنين هيكل والحقيقة ان هذا المقال من اجمل ما كتبت حيث ترافق معه إحساس الصحافي المرهف والمحب لهذه الشخصية العربية التي قدمت الكثير لوطنها مصر والوطن العربي الكبير وكان حقا مدرسة فى الصحافة العربية والعالمية .
رحمه الله واسكنه فسيح جناته
رحمه الله
كان يملك شجاعه .. عجز عنها الكثير من الصحفيين فلم تغره الأموال التي تدفع للصحافة الانيقه بالأموال..شق طريق صعب في زمن تهاوي في الكثيرين من اقرانه.. وهذا يعطينا درس ..أنه من قوّى نفسه بالعلم والمنطق الحق يستطيع المضي دون التسول والتوسل للكبار
هو ركن كبير من أركان الصحافة العربية الحرّة الغير مرتهنة لأحد.
لقد كان رجلا بمعنى الكلمة صاحب قلم ناقد صريح
رحمه الله واسكنه فسيح جناته
أضع اكثر من علامات سؤال امام الكلمتين؛ الحرة و المرتهنة!!!
ترك كتب ومؤلفات قيمة
ثروة فكرية وثقافية كبيرة.
ليس آخر العمالقة
لكل زمان رجال و اﻷمة العربية لديها الكثير من رجال العلم و الثقافة
آخر العمالقة فعلاً.... والدليل ان هذا الزمن هو زمن بن لادن والظواهري وابوبكر البغدادي الذين تتبعهم آلاف ممن لا يملكون عقول.
نعم
الأمة العربية تزخر بالكثير من الرجالات و المثقفين و المفكرين