في برنامج تلفزيوني أميركي، شاهدته قبل سنوات، عن رؤية الأم لتربية أبنائها والهدف من التربية، تم توجيه سؤال بشكل عشوائي إلى أمهات حديثات العهد بالأمومة من مختلف الفئات الاجتماعية، تحدثت الأمهات عن توفير الغذاء الصحي والجيد وتعليم الأطفال المحبة والمشاركة، وتوفير وسائل التسلية والاستمتاع، واللطف في التقويم بدل القسوة، فيما قالت إحدى الأمهات إنها تريد لأبنائها أن يكونوا أفضل منها في الحياة وستترك لهم «سقف الصندوق» مفتوحاً لهم ليفكّروا كيفما شاؤوا في الأشياء غير الاعتيادية.
واختصرت إحدى الأمهات رؤيتها في القول: «الإنسان خلق ليكون سعيداً، سأفعل كل ما بوسعي لأوفر لأبنائي ما يحقق لهم أكبر مقدار من السعادة وأقل قدر من الألم».
ما ذكرني بالبرنامج هو إعلان دبي استحداث وزارة للسعادة في سياق إعادة تشكيل وزاري تم مؤخراً استحدثت فيه وزارات أخرى غير اعتيادية ذات طابع اهتمام بالإنسان والقيم. ولم يكن هذا الإعلان «خبر» الأسبوع الماضي فحسب، بل كان «خبر المرحلة» بامتياز. فالخبر كان في مفاجأته الصادمة (إيجابيًّا)، يشبه مخلوقاً اسطوريّاً، ساد الاعتقاد أن لا وجود له إلا في خيال كُتّاب الأساطير، يرفع رأسه وينتصب بثقة وسط مخلوقات حقيقية كثيرة أحنت ظهورها الأزمات والمصاعب والمصائب التي تتكالب عليها من كل الاتجاهات، ولم تعد تنظر إلا في اتجاه الأسفل بحثاً، على الأرض، عن موقع آمن لخطوتها على مدى النظر ولا يعرف كم سيستغرقها كي تتجاسر وتوسّع مدى هذا النظر لتفتح خطوتها أوسع فأوسع، كما يصف العداؤون خطوتهم الموشكة على بدء مشوار الجري نحو الهدف.
ويأتي القرار الإماراتي متناسباً ومكملاً للقفزات التي أخذتها دبي في الهواء آخذة معها أقصى درجات المخاطرة وغير مكترثة بالانتقادات والتحليلات على الأرض. وفي حالة البحث عن حلول لأوضاع مزمنة عصية على التغيير، لابد من المخاطرة بحلول غير اعتيادية على افتراض أن الحلول الاعتيادية لم تنفع وإلا فلم تكن المشكلات والأوضاع لتصبح مزمنة.
والإمارات التي جاءت في المرتبة الأولى عربيًّا والمرتبة العشرين عالميًّاً، في تصنيف التقرير العالمي للسعادة 2015، ليست الدولة الأولى في العالم ِالتي تنشئ وزارة للسعادة، ففي 2013 أنشأ الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادرو وزارة للسعادة الاجتماعية حينما كانت بلاده تمرُّ بأزمة اقتصادية خانقة ارتفعت معها معدلات التضخم وشح معها حتى الغذاء الرئيسي، قال في حينها إنها ستنسّق مع برنامج مكافحة الفقر الذي أنشأه سلفه الرئيس الراحل هوغو تشافيز. كما عيّنت الإكوادور في العام نفسه وزيراً لـ «الحياة الجيدة» لتتولّى مسئولية تحقيق السعادة والرضا للشعب. ومن قبلهم اعتمد ملك بوتان في 1972 مؤشر السعادة بديلاً عن الناتج المحلي الإجمالي لقياس النمو، واعتمد لذلك أربعة معايير، هي التنمية المستدامة، والمحافظة على القيم الثقافية والمحافظة على البيئة الطبيعية بالإضافة إلى جودة الحكم.
وتتشابه «معايير بوتان» مع معايير «التقرير العالمي للسعادة» الثمانية وهي الناتج المحلي الإجمالي بمقياس القوة الشرائية، والدعم الاجتماعي الذي يلجأ اليه الأفراد وقت الشدة، ومعدل العمر، وجود حكومة تتصدى للفساد، والكرم الاجتماعي ووجود من يحب المساعدة والتطوع في المجتمع، والحرية لاختيار نمط الحياة المناسب، بالإضافة إلى قياس مؤشرات الشعور الإيجابي كالضحك والاستمتاع ومؤشرات الشعور السلبي كالقلق والحزن والغضب.
كما أن «معايير بوتان» ومعايير التقرير العالمي للسعادة» لم يخرجا من تعريفات هرم ماسلو للاحتياجات البشرية التي وضعها ابراهام ماسلو في الأربعينات والتي تتدرج من قاعدة الهرم العريضة في الأسفل من الحاجة الفسيولوجية الجسدية إلى الحاجة إلى الأمن بمستوياته الصحية والأسرية وأمن الممتلكات وغيره، ثم يتدرج إلى الحاجة الاجتماعية من تكوين الصداقات والألفة ثم عند مستويات الهرم الضيقة العليا تأتي الحاجة إلى الإحساس بالثقة والمكانة الاجتماعية وفي قمة الهرم تأتي الحاجة إلى الابتكار. وكل هذه المعايير لا تختلف كثيرًا مع معايير الأمهات للسعادة التي يسعين بإخلاص فطري وغريزي إلى تحقيقها لأبنائهن.
وعلى رغم أن هرمية اشباع احتياجات الإنسان في نموذج ماسلو تقترح أنه لتحقيق السعادة لابد من العودة إلى إشباع احتياجات الإنسان من أسفل هرم ماسلو إلى أعلاه ومع تدرج اشباع هذه الرغبات سيكون مقدار السعادة المتحققة، إلا أن نسبية الشعور بالسعادة تعني أن عدم اشباع جميع احتياجات «ماسلو» لن يحرم الشعوب من تذوق طعم السعادة المتدرج نحو الأقصى بصعود الهرم، فبعض الشعوب تتربع الآن على قمة هرم ماسلو بعد أن تمكنت حكوماتها من اشباع احتياجاتها الفسيولوجية والاجتماعية كافة، ولم يتبق إلا أن توفّر لها حكوماتها أجواءً وبيئة مناسبة لشحذ الابداع والابتكار لتحقيق ذلك المستوى العالي من الإشباع وبالتالي تكتمل سعادتها، فيما شعوب أخرى تعتبر نفسها سعيدة بالحصول على قوت يومها، وشعوب أخرى تعتبر نفسها محظوظة بالبقاء حية في آخر كل نهار.
وبذلك فإن طول الطريق لتحقيق السعادة يختلف من شعب إلى آخر، كما يختلف تعريف السعادة إذا ما تجاهلنا الجدل الذي خلقه تقسيم هرم ماسلو وتفاوت درجات الإشباع من كل فئة من الاحتياجات والانتقال من فئة إلى أخرى بحسب الفروقات الفردية بين الأشخاص التي تحدد تلك الاحتياجات. فوزارات السعادة لا يمكنها أن تخلق شعباً سعيداً بقدر ما يكون دورها في الأساس أن تقوم بقياس مؤشرات السعادة بحسب أوضاع بلدها وامكانياته والتي تؤدي إلى تحقيق السعادة، وتوصى بضبطها، وهذه المؤشرات كما حددها التقرير العالمي ستعنى بتحقيقها الوزارات المختلفة التي تقع ضمن مهماتها التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية.
وربما يفسّر ذلك أن مملكة بوتان التي اعتمدت مؤشر السعادة للنمو منذ أكثر من أربعة عقود حصلت على المرتبة 79 في تصنيف تقرير السعادة العالمي» بين 156 دولة. ولاتزال فنزويلا بعد ثلاثة أعوام من انشاء وزارة السعادة تراوح في مستوى 23 والإكوادور في المرتبة 48، فيما لا يوجد في الدول الإسكندنافية التي تحصد المراتب الأولى في تقرير السعادة أية وزارات أو هيئات للسعادة.
إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "العدد 4911 - الثلثاء 16 فبراير 2016م الموافق 08 جمادى الأولى 1437هـ