مَنْ هو النَّذل؟! يقول اللغويون إنه «الخسيسُ من الناس، والمحتقَر في جميع أحواله». في الغرب سَنَّ الناقد والشاعر الانجليزي صمويل جونسون (1709م - 1784م) مقولة ذهبية حين قال: «الوطنية هي الملاذ الأخير لكل نذل». وهي من أروع ما قيل. فالنّذل يمكنه أن يَتطهَّر من كل ذنوبه وأدرانه وخِسَّته واحتقار الآخرين له، فورَ أن يتدثر بالوطنية مدعياً أنه من رجالها الأوفياء.
والحقيقة، أن هذا القول (وبعد أن مضى عليه قرابة 250 عاماً) يمكن أن يُعاد إنتاجه في بيئتنا لكن باستبدال مفردة واحدة فيه لتصبح: «الطائفية هي الملاذ الأخير لكل نذل». فالطائفية، التي تتعاضد فيها وحدة الغرائز والميول والعواطف يمكنها أن تكون الملاذ الأخير لكل الأنذال المُنحطّين الذين زكَّتهم طوائفهم وطهَّرتهم «زوراً» مما هم فيه من سوء.
ففي الطائفية يحكم أجواءها أمر واحد فقط: نقبل الجميع كيفما اتفق، سواء أكَان نذلاً دنيئاً أم شريفاً عدلاً أم عالِماً نِحْريراً أم جاهلاً بَلْهاً وتحت أي عنوان ما دام الشعار الطائفي يجمعهم في مِلَّة دينية واحدة، حتى إذا ما اكتمل الأمر واخْتَمَر وَجَدَ الأتباعُ أنفسهم (كما قال ماركيز في إحدى رواياته) لا يعرفون: «مَنْ هو مَنْ، ولا مَنْ هو مع مَنْ» وكأنّ الأمر كله جَلَبَة وفوضى عارمة.
في هذه الأجواء تُبان الأمور على حقيقتها ومجازها على حدّ سواء! تزدهر الحقيقة، حين يظهر الفرد الطائفي على حقيقته، فيُخرِج أقصى ما يشعر به ويتمناه ويفكر فيه تجاه الآخر. بعضهم يفيض به البغض فيُعبِّر عن ذلك بأعلى صوته في كل وسيلة يراها مزماراً لصوته، إن كان في أُسْرتِه أو في مَجَالِسِه أو حتى في وسائل التكنولوجيا الحديثة كما هي اليوم، فيتقيأ بكل ما يشعر به.
أما في أمنياته، فيذهب به الخيال إلى أقصى ما يمكن للشر أن يأخذ صاحبه، لذلك تراه يُعمِل تفكيره في ذلك الشّر فتظهر لديه أفكار شيطانية لا تخطر على بال أحد. فهو تَفننٌ في الجانب المظلِم من الضمير. كل هذه الأمور الشريرة لا تظهر إلاَّ في الجماعات الخالِصة مذهبيّاً أو تلك المستقوية بسلطة أو بقوة، حين تجد نفسها محمية في صُرَاحها مهما بلغ بها الشر.
أما المجاز فإنه يزدهر لكن بطريقة أخرى. فحين تعصف الطائفية بالمجتمعات المنقسمة، ترى الأقليات الطائفية أو الأكثريات الطائفية المستضعَفَة تعيش الانكفاء على الذات، فلا يُسمَع صوتها ولا تُعرَف مشاعرها بسبب الخوف، لكن جَذوَة الطائفية لديها لا تموت، بل أحياناً تكبر وتتوسّع بشكل أكثر تطرفاً وأسرع خطواً بسبب الكبت والظلم الواقع عليها.
أما الضائعون فهم أؤلئك البشر الطيّبون الذين لم يُربّوا مشاعرهم ولا أمنياتهم ولا تفكيرهم على الحِسّ الطائفي التجزيئي والتفتيتي، لذلك تراهم يعيشون الغربة والانقباض، وفي الوقت نفسه تناديهم جماعاتهم باستخفاف إنكم أناس تتطهّرون! والحقيقة أن هؤلاء هم مَنْ يدفعون الثمن الحقيقي، وتحديداً الثمن النفسي على رغم أنهم بيضة القبّان في مثل هذه المعارك القذرة.
دعوني أستحضر شيئاً من الذاكرة. فقبل سبع سنوات وسبعة أشهر من الآن كتبت في هذه المساحة من «الوسط» عن نموذج يشبه ما أتحدث عنه. بطلة القصة امرأة عراقية وأبناؤها الثلاثة عشر الذين لم يعرفوا يوماً تمذهباً سنيّاً ولا شيعيّاً. فأبوهم عاش ومات دون أن يدري أحدٌ حقيقة مذهبه. وبعد أن احتل الأميركيون العراق، واستعرت الحرب الطائفية، وجدت الأم وأبناؤها أنفسهم ضائعين في هذه المتاهة الغريبة عليهم. فهم لم يشعروا يوماً أن لهم انتماءً مذهبيّاً يُحدد لهم زيجاتهم أو علاقاتهم أو سلوكهم أو مكان سكنهم وتجوالهم ومشترياتهم.
فقرر الإخوة مُرغمَين أن يتعايشوا بـ «الكذب» مع ما يجري حولهم، فحصل الاتفاق بينهم: مَنْ يسكن منا حي الدورة السُنّي يكون سُنّيّاً ويضع على سياراته وفي جيبه ما يرمز إلى ذلك. ومن يسكن منا حي الشرطة الشيعي يكون شيعيّاً ويضع على سياراته وفي جيبه ما يرمز إلى ذلك؛ كي يأمن الطرفان على نفسيهما القتل والتهجير في (ومن) الحيَّيْن.
الأخ الثامن من العائلة سَكَنَ حيّاً شيعياً تنتمي إليه زوجته، وبدأ يمارس طقوس الحي العاشورائية ويرفع الصور التي يرفعها أهل الحي، لكن أحد الزعامات الدينية المتطرفة وجّه أتباعه لأن يتم التحري في أمره فلم يهتدوا إلى حقيقة مذهبه، لكنهم وجدوا أن له إخوة يقال عنهم إنهم سُنّة يعيشون في منطقة أبي غريب السُنّية فهجَّروه.
أما الأخ الرابع الذي سَكَنَ منطقة أبي غريب السُّنية فقد تحرّى عن مذهبه متطرفون دينيون هناك فاكتشفوا أنهم قتلوا شقيقاً له (قيل عنه إنه شيعي) شرق بغداد، فقرروا تهجيره! فلم يجد مَنْ سكن حيّاً شيعيّاً أو حيّاً سُنيّاً منهم ملاذاً يذهب إليه سوى سرير أمّه المسجَّاة في مستشفى اليرموك يشكو إليها الحال وهي في النزع الأخير.
هذه هي المأساة التي تنتجها الصراعات الطائفية. وهي صور تتكرر في غير مكان بدرجات مختلفة. حيث يصبح كل شيء طائفيّاً: الزواج والصداقات وشراء الأكل والشرب والملابس، فضلاً عن الأمكنة والخطاب والسلوك، من ازدهار التنابز بالألقاب أو السخرية أو السباب أو التهكم وخلافه. إنه باختصار وجهٌ قبيح للبشر وحياتهم، بعد أن صارت الطوائف تحمي أنذالها على رغم خِسَّتِهِم.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4909 - الأحد 14 فبراير 2016م الموافق 06 جمادى الأولى 1437هـ
موفق
تسلم كاتبنا المبدع على المقال الرائع الموجع
أحييك
...
كذلك تنطبق كلمة ( الانذال ) على التجار الي يبيعون طبقة اليسار فقط ويورطون خلق الله في المشي يعني ....
وهل
وهل يعي الانذال المنافقون
أم محمد
بوركت من كاتب متميز. الله أكثر من الضائعون الطيبون الذين لم يربوا مشاعرهم ولا أمنياتهم ولا تفكيرهم على الحس الطائفي لذا يعيشون في غربة وانقباض ويدفعون الثمن النفسي. اللهم أدم نعمة العقل والوسطية والاعتدال عليهم، ولاتبارك اللهم في المتاجرين في الذين الظانيين بالمؤمنين ظن السوء.
الطائفية مرض العصر
أحسنت أبو عبد الله على مقالك الرائع ، لقد وضعت الاصبع على الجرح وشخصت المرض الذي ابتلينا به جميعا حتى سالت الدماء أنهارا ونهشت اللحوم الآدمية وقطعت الرقاب واستبيحت الأعراض
مقال رااااائع جدا ليت المسلمين يتعضون من تجاربهم
مقال رااااائع جدا ليت المسلمين يتعضون من تجاربهم
ويدعون الاسلام كذبا
أوضحت الحقيقة ايها الكاتب المحترم فنحن كنا نعيش الأمن والأمان قبل هذه اللوثة المصطنعة والمعدة لدينا وأقول لقد كفرت بما يؤمنون به
Nice Mohammad
مقال رائع يا أستاذ محمد ولكن لا حياة لمن تنادي