إنَّ الذكرى هي للعبرة وإدراك مغزى الأحداث والمناسبات، فالأيام والسنون تمرُّ متسارعة مر السحاب، غير عابئة بأقدار الناس ومصائر الشعوب إلا لو أدركت تلك الشعوب بعقلانيتها وحكمتها كيفية التصرف في المواقف الصعبة، والتعامل مع التحديات تعاملاً صحيحًا، وليس برد الفعل اللاعقلاني. وهي في سرعتها وتوقيتها ترسل رسالة واضحة إلى البشر مؤداها أن عليكم أيها العقلاء العمل والتعاون، وهو الهدف الرئيسي الذي خلقكم الله له، ولكي تستفيدوا بما أتيح لكم من فرص وفيرة لا تعود مرة أخرى في معظم الأحيان.
وبمناسبة ذكرى الميثاق نقول إن هناك علامات فارقة مهمة في تاريخ الأمم والشعوب ترسي لبنات راسخة للمستقبل، ويعد صدور ميثاق العمل الوطني أحد أبرز تلك العلامات المميزة. ولعل ذلك مرجعه أنه يؤرخ لثلاثة تطورات تاريخية بالغة الأهمية.
الأول: تحول البحرين من دولة إلى مملكة دستورية إذ صدر دستور جديد مبني على دستور العام 1973، وتحديثه بما يناسب المتغيرات الدولية والوطنية. ومن أبرز التحديثات الإقرار بدور المرأة باعتبارها شريكة الرجل، وإن الله جلت قدرته خلقهما للمشاركة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وهذا ما يجب أن يكون في الحياة السياسية بالانتخاب والترشيح على المستويات البلدية والنيابية كافة، والمناصب الوزارية والقيادية في شتي المجالات. والاعتراف بمكانة ودور القوى السياسية وجمعياتها ذات التوجه الوطني الذي يتماشى مع العصر الحديث بعدم قيام الجمعيات السياسية على أسس طائفية أو دينية وباختصار التأكيد على مدنية النظام السياسي.
الثاني: تحول البحرين كمملكة دستورية الى إعلاء مبدأ الدستور وما له من أهمية واحترام القانون الذي يضبط حركة المجتمع وحراكه السياسي بما يتلاءم مع المستجدات.
الثالث: الإقرار بحق الشعب باتخاذ القرار في بناء هيكل النظام السياسي في إطاره العام. وذلك بصدور الميثاق بإرادة شعبية وإعداده من قبل لجنة خبراء متخصصة شاملة مختلف الطوائف والسياسيين والمفكرين والفقهاء الدستوريين والقانونيين واعتماده من الشعب الذي صوت عليه بنسبة تقرب من الإجماع 98.4 في المئة ثم إصدار جلالة الملك له، ومن هنا اعتبر الميثاق هو المرجعية السياسية الرئيسة، و كذلك الدستور الصادر نتيجة له العام 2002.
ولكن الميثاق والدستور ككل أعمال البشر فسرته بعض القوى السياسية كل بحسب رؤيتها وطموحاتها. وهذا من الأمور الجائزة في العمل البشري وخاصة العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي؛ بل والديني وكما قيل إن اختلاف الفقهاء رحمة، فكذلك اختلاف القوى السياسية في أي مجتمع هو أحد أدوات التطور والتطوير شريطة ارتباط الاختلاف بالمقولة الثانية «إن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية»، أي عدم الخروج في العمل السياسي عن الوسائل السلمية القانونية المشروعة والمستقرة في الدول الحضارية والمنصوص عليها في الدستور والاحتكام للقضاء في حالة عدم التوصل إلى حلول. فالقضاء هو دائمًا الذي يفسر القانون او الدستور ويلجأ اليه المواطنون مهما تكن وجهات نظرهم في أحكامه، وإلا فان البشر تحكمهم شريعة الغاب وتسود بينهم الفوضى وهذا ما يرفضه أي إنسان عاقل كما رفضه الفكر السياسي الأوروبي في عصر النهضة كأساس لبنيان الدولة، ومن هنا دعا كثير من المفكرين امثال جان جاك روسو الى العقد الاجتماعي، وتوماس هوبز الى الخروج من الفوضى وشريعة الغاب بالسلطة المطلقة التي يدين لها الجميع بالطاعة والخضوع مع احترام آدمية الانسان وحقه في الحياة التي من دون وجود مؤسسات وأجهزة الدولة مثل الشرطة لتحقيق الأمن وتنفيذ أحكام القضاء، والجيش للدفاع عن الوطن والقضاء لإقرار العدالة، وإلا فإن البديل هو شريعة الغاب وانتهاك أول الحقوق وهو الحق في الحياة كما حدث بين ابني آدم قابيل وهابيل.
من ناحية أخرى اكد مونتسكيو مبدأ الفصل بين السلطات التي تنظم سلوكيات الأفراد وشئون المجتمع وعلاقاته بعضه ببعض. أما الفكر الاسلامي فقد أكد المخاطر الجمة للفتنة في تدمير المجتمعات، ولعل من أبرز الأطروحات في هذا الصدد هو ما يتعلق بالفتنة، إذ يروى عن النبي (ص) قوله «دع الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها» بل إن القرآن الكريم قال عن الفتن «الفتنة أشد من القتل» (البقرة:191) ولعل السبب في مثل هذا التغليظ في التشخيص والعقاب هو أن الفتنة تترتب عليها أعمال قتل وتخريب والإراقة الجماعية للدماء. ولنا فيما حدث بين بعض الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج عندما سعى أحد الخبثاء لتذكيرهم بما كان بينهم في الجاهلية، فتنازعوا وامتشق كل من الطرفين الحسام للاحتكام إليه، ولما بلغ النبأ النبي (ص) سارع اليهم، وقال لهم أجاهلية وأنا بين ظهرانيكم. فعاد المتنازعون واستغفروا ربهم والتزموا بتعليمات الرسول الكريم (ص).
وفي مناسبة ذكرى الميثاق نستذكر الوثيقة الأخرى المهمة للغاية في تاريخ البحرين الحديث وهي تقرير مبعوث الأمم المتحدة لاستطلاع رأي شعب البحرين عن مستقبله ودولته وحكمه وعلاقاته الدولية. وترتب عليها اعلان استقلال البحرين العام 1971 وقبولها عضوًا في الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية وإقامة علاقات دبلوماسية مع العديد من دول العالم وفي مقدمتهم دول الجوار العربي والإسلامي.
لكن نتيجة عودة نوازع المطامع والسيطرة من بعض دول الجوار صدرت أفكار مثل تلك التي برزت بين الأوس والخزرج تدعو إلى الفتنة وأدت إلى خروج البعض عن المألوف لدى شعب البحرين من المحبة والوئام والاعتدال الفكري والولاء للوطن ومن هنا تحول الاختلاف إلى صراع وهو ما لم يقبله عقلاء الشعب وقادته من مختلف الأطياف.
وجاءت الدعوة إلى الحوار الوطني وانتهت الى ضرورة إدخال تعديلات وإصلاحات وهو ما قامت به الدولة تماشيًا مع الفكر الحديث بأولوية مجلس النواب على مجلس الشورى مع تكامل عملهما التشريعي على رغم اختلاف اختصاصات ومهام كل منهما، ودعا الحوار الوطني الى إعطاء المزيد من الاهتمام بقضايا المجتمع المعيشية والاقتصادية والاجتماعية في حدود امكانيات الدولة ومواردها. وضرورة الالتزام بالدستور والقوانين التي تحكم حركة المجتمع وتوضح دور السلطات الثلاث، ودور القوى القائمة على الدفاع والأمن والعدالة والتي هي من أولويات أية دولة، وهي الوظائف الرئيسية التي تحدث عنها الفكر السياسي التقليدي. وبهذا أمكن للبحرين وشعبها أن تتجنب كوارث تعرضت لها شعوب ودول أخرى في المنطقة ما أهدر موارد الدول، وقتل مئات آلاف من مواطنيها، ونشر فيها عدم الاستقرار، وعدم الأمان والتخلف الاقتصادي والثقافي؛ بل أوقع بعضها فريسة لدول طامعة في السيطرة، كما أدى ذلك لظهور تنظيمات متوحشة باسم الاسلام البريء منها، ونكلت بكل من يخالفها وحولت الحضارة العربية الاسلامية الى حضارة التوحش والقتل على الهوية وسمحت بالتدخل الأجنبي في الأوطان وتدميرها.
نقول ما سبق لتذكير شعب البحرين بطبيعته المتسامحة وحكمة آبائه وأجداده في تجنب الصراعات أو الاستماع إلى أية دعوة من دعاوى الجاهلية يترتب عليها بث بذور الفتن التي تفرق ولا تجمع، وتدمر ولا تبني، وتبث الفوضى ولا تحقق الاستقرار وتدعو إلى الاحتكام إلى الخارج والاستماع لنصائحه وفتاواه وهي نصائح ثعلب وثعبان في ثوب الناصح الحكيم.
إن ذكري الميثاق مناسبة لجميع أبناء وبنات البحرين لاستذكار التصويت عليه، وكذلك تقرير مبعوث الأمم المتحدة لتقصي اتجاهات وفكر شعب البحرين بمختلف فئاته وطوائفه التي عبر فيها عن رغبته أن تكون البحرين حرة مستقلة، وعلى علاقات طيبة مع دول الجوار، ومع العالم بأسره وتعيش في أمن وأمان وسلام من دون تدخل في شئونها الداخلية بأية وسيلة من وسائل التحريض. وهي بدورها تحرص على عدم التدخل في شئون غيرها. وهذا ما انتهجته قيادة البحرين الحكيمة من الاهتمام بشعبها وإرساء دعائم البنية الأساسية للاقتصاد والخدمات وتطويرها وهذا يتجلى في مقارنة أوضاع معظم دول منطقة الشرق الأوسط بالتطور الذي تحقق في البحرين أخذا في الحسبان جميع المقومات المادية والموارد الطبيعية والبشرية.
وختامًا نهئئ شعب البحرين بمختلف طوائفه وقيادته الحكيمة التي حققت له الكثير من الانجازات وجنبته مصائر شعوب أخرى أصبح معظمها من اللاجئين في شتى ارجاء العالم. ودعوات من قلب مصري محب للبحرين وشعبها وقيادتها الرشيدة بالتقدم والازدهار والوئام.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 4909 - الأحد 14 فبراير 2016م الموافق 06 جمادى الأولى 1437هـ