«يشيدون ملعب غولف، يزرعون على جنباته بعض الأزهار، ويهدرون المياه في لعبة الأثرياء هذه، ثم يزعمون أنهم يحافظون على البيئة». ويطلق محمد قهقهته الساخرة، وهو فلاح أربعيني كان يضرب مثلاً عن التبذير في المياه، بعدما دعانا هو وأصدقاؤه الثلاثة للانضمام إلى جلستهم ذات ليل في حقل زيتون في قرية غير بعيدة عن مدينة وزان في شمال الغرب وكانوا يشربون الشاي ويدخنون القنّب الهندي في غليون طويل.
تجاوزت الحرارة في نهار ذاك اليوم الأربعين درجة مئوية. أما الآن وقد مضى على غروب الشمس بضع ساعات، فلايزال الجو حاراً وصوت الصرار يملأ آذاننا. فجأة هب علينا نسيم عليل، تبعته بعض حبات مطر، جعلتنا ننسى حر النهار الذي لم يشهد له أهل القرية مثيلاً، حسبما حدثنا الفتى عاطف عندما رافقناه ذلك النهار في رحلته لجلب الماء.
كانت الطريق نحو المورد بعيدة وعرة المسالك. وبدا الفتى مسرعاً في مشيه أثناء العودة كي لا تبتعد الأتان عنه. إنها تحمل على ظهرها 60 ليتراً من الماء، وتعرف طريقها جيداً، وتريد الوصول عند الغروب، كي تأكل وتشرب وتستريح. قال لنا عاطف، وهو فتى في ربيعه السادس عشر يسكن وعائلته في قرية على مقربة من نهر أصبح جافاً: «هكذا نحن عادة نقصد قرية عين امزيد حيث يوجد الماء. نذهب مباشرة بعد الفجر أو قبل الغروب، فالحرارة لا تحتمل صيفاً». وأضاف: ماشيتنا أيضاً عطشى، وبستاننا يحتاج إلى الكثير من الماء في هذا الحر».
صادفنا في طريقنا أطفالاً عائدين من المرعى، وقطعان أغنام تجري مثيرة فوقها سحابة من الغبار. صرنا جميعاً لبرهة داخـل السحابة، وشيئاً فشيئاً بدأ الغبار ينحسر، حتى دنونا من مزارع يروي القنب الهندي على مقربة من النهر. هناك روى لنا عاطف بعض ذكرياته الأولى: «كنت آتي أنا وإخوتي إلى الوادي، نرعى الماشية ونسبح ونصطاد السمك. أما الآن ومع أول الصيف، فلم يبقَ من مياهه سوى القليل، يستغلها الفلاحون في الري».
ناقوس العطش
تعاني قرى المغرب النائية من شح المياه، ويضطر الأهالي إلى السير مسافات طويلة للوصول إلى أقرب منبع. وقد يتحملون عناء الانتظار طويلاً في طابور غير منتظم أمام الصنبور.
«الماء ملك للجميع»، يقول محمد بنعطا، وهو مهندس زراعي ومنسق التجمع البيئي لشمال المغرب، مبدياً لنا أسفه لما يعانيه الناس من أزمة في توزيع الثروة المائية. ولا ينسى أن يذكرنا ببرنامج تزويد المجتمعات القروية بالماء، الذي نجح في ربط نسبة مهمة من سكان البوادي بالشبكة العامة، قائلاً: «يجب على الإدارة متابعة مثل هذه البرامج حتى يتم ربط جميع البوادي بشبكة المياه». ويلفت إلى أن حاجات الصناعة والسياحة والزراعة إلى الماء في ازدياد، لهذا فالكميات المتوافرة للفرد في تناقص، مضيفاً أن «شبح العطش قادم لا محالة».
يبلغ تعداد سكان المغرب 34 مليون نسمة حسب إحصاء 2014. وتزداد الحاجة إلى الماء كل سنة في حين يقل نصيب الفرد منه. وقدرت المياه العذبة المتوافرة عام 1970 بنحو 1800 متر مكعب للفرد، لكنها أصبحت لا تتعدى 800 متر مكعب للفرد عام 2010 وفقاً للمعطيات الرسمية، علماً أن ما دون 1000 متر مكعب للفرد سنوياً يعتبر ندرة مائية.
هناك العديد من المعطيات الصادرة عن مراكز دولية تضع المغرب في خانة الدول التي ستعاني نقصاً حاداً في الموارد المائية خلال المستقبل القريب. وقد حذر تقرير لمعهد الموارد المائية في جامعة كاليفورنيا من أن يصبح المغرب بعد 25 سنة ضمن عشرين بلداً هي الأكثر تضرراً من مشكلة نقص المياه، بسبب التغيرات المناخية والتنمية الاقتصادية والتمدن والنمو السكاني. ونشرت الأمم المتحدة خريطة لحالة الموارد المائية في العالم، حيث صنفت المغرب ضمن الدول التي ستعاني من تراجع كبير في مواردها المائية بحلول 2025.
بلد المسطحات المائية
يطل المغرب على واجهتين بحريتين هما البحر المتوسط والمحيط الأطلسي. ويعتبر اللجوء إلى تحلية مياه البحر أمراً حتمياً في الجنوب ذي المناخ الجاف. وقد تم تشييد أول محطة لتحلية المياه في طرفاية عام 1976 بقدرة 75 متراً مكعباً في اليوم، تبعتها عدة محطات أكبرها تلك الموجودة في العيون بقدرة 7000 متر مكعب. لكن كلفة استغلال هذه التكنولوجيا باهظة، فتحلية متر مكعب واحد من الماء تكلف نحو ثلاثة دولارات.
يعتمد المغرب على الأمطار والثلوج كمصدر أولي للمياه، لكنها غير منتظمة. كما يعول على مسطحاته المائية من أنهار وبحيرات وسدود منتشرة في أرجائه. وتمتاز جغرافية البلاد بشبكة نهرية مهمة تضم سبعة أنهار رئيسية تنحدر جميعها نحو المحيط الأطلسي، باستثناء نهر ملوية الذي يصب في البحر المتوسط، ونهر درعة الذي يصب في الصحراء وهو أطول نهر ويتخذ من سلسلة جبال الأطلس الكبير منبعاً له ويمتد على طول 1200 كيلومتر.
وفي المغرب اليوم 128 سداً كبيراً و100 سد أخرى بأحجام مختلفة موزعة في أنحاء البلاد. وكانت فرنسا بنت 13 سداً في المغرب قبل خروجها منه عام 1956. وعرفت فترة الملك الراحل الحسن الثاني تشييد عدد كبير من السدود الكبرى، أولها سد الوحدة الذي تم تشيده عام 1996 في الشمال بسعة 3,8 مليارات متر مكعب.
لكن سياسة السدود هذه غير قادرة وحدها على مواجهة أزمة العطش المحتملة، كما يقول محمد بنعطا الذي يدعو إلى ترشيد استعمال الماء وعدم تلويثه، واجتناب المشاريع المفرطة في استهلاكه مثل إنشاء ملاعب الغولف واستخراج الغاز الصخري، واختيار المحاصيل الزراعية التي لا تحتاج إلى ري كثيف، مضيفاً: «لا يعقل أن بلداً يتهدده الجفاف يستنزف المياه لإنتاج الطماطم بقصد تصديرها إلى الخارج».