تُواصل «دار مسعى»، ومقرُّها مملكة البحرين، ويديرها الشاعر والكاتب محمد النبهان، انفتاحها على الإصدارات الخليجية، في تنويعة تقتفي أثر الأسماء المهمة، تلازماً مع النصوص الفارقة التي تضيف إلى التراكم الإبداعي في منطقة الخليج قيمة تمثِّل رافعة، ومدخلاً للتعرف على التيارات الحديثة في اشتغالها على النصوص. ومن بين الإصدارات التي قدَّمتها الدار إلى القارئ الخليجي خصوصاً، والعربي عموماً المجموعة الشعرية «جمهور الضحك» للشاعرة العُمانية فتحية الصقري، وهي المجموعة الشعرية الرابعة لها؛ إذ تؤكد من خلالها نقاء وعمق تجربتها الشعرية، وهي الصوت المميَّز الذي يتقدَّم في كل مجموعة خطوات في طريق بناء حالة مختلفة وحقيقية في شعرها.
هنا في هذه المجموعة، تنفتح الصقري أكثر على الواقع الذي هو خارجها، لتدخل فيه صوتها الخاص، فبقدر ما ترى شخوصاَ وحوادث وأشياء حولها، بقدر ما تعود إلى ذاتها التي أكدت عليها كثيراً في مجموعاتها السابقة.
هذا ديوان يُظهر صوت الشاعرة الإنساني، ويجعلها أكثر اتضاحاً من ذي قبل. إنها هنا ليست المرأة المنعزلة كما في ديوانها السابق «أعيادي السرية» بل هي الباحثة عن حقائق الوجود، المتأمِّلة في علاقات الأشخاص والأشياء.
تقول في إحدى القصائد: «لا أستطيعُ فكَّ التباسِ علاقتي بهذه الأحجار
التي لنْ تصيرَ، يوماً ما، أزهاراً مَرِحة
لا أستطيعُ فِعْلَ شيءٍ لأجلِ كلِّ هؤلاءِ الموتى
المرضى بالتَّشابُه
لا أستطيع
متَّحدةً مع حدَّةِ المَيَلان
لرنَّةِ الحديقة).
«المسكونة باللحظة» لعادلة عدي
كما صدر عن «مسعى» الكتاب الأول للعُمانية عادلة عدي وحمل عنوان «المسكونة باللحظة» وهو عبارة عن شذرات استطاعت فيها الكاتبة أن تختزل أفكارها في عبارات شديدة الحساسية، حادَّة، قصيرة ولكنها عميقة وملفتة.
ويؤكد الناشر على ذلك في الغلاف الخلفي للكتاب بقوله إنها «تجعلنا نلاحظ كيف تتقافز الأفكار في ذهن الكتّاب، نرى كيف يفكِّر الشباب اليوم، تمنحنا القدرة على رؤية الضجيج الذي داخلهم، والتشظي المستمر الذي هم عليه».
الكتاب المقسَّم على ثلاث رصاصات ومذكرة (كما هي عناوين الفصول) وموزَّع على 140 صفحة، لا يضرب بيده على جهة واحدة، هو نقد اجتماعي وإنساني، أفكار وهواجس ذاتية، تصل لحدِّ الشعر أحياناً، وتعود باتجاه اليومية في أحيان أخرى، مقياسها الدهشة دائماً واقتناص الفكرة، وإعادة صوغها في شكل أدبي. من نصوص الكتاب: «أحيانا حين أفكِّر
أتلصَّص من ثقب الذكريات على ذاكرتي
ما الذي تفعله بدوني؟!».
«العتمة التي أشرقت» للبلوشي
وأصدرت الدار أيضاً المجموعة الشعرية الجديدة للشاعر العُماني عبدالله البلوشي والتي حملت عنوان «العتمة التي أشرقت» وهي مجموعته الشعرية السادسة، بعد: «برزخ العزلة»، «فصول الأبدية»، «معْبر الدمع»، «أول الفجر»، و «المصطلم»، وبعد كتابين سرديين صدرا عن الدار نفسها هما: «حياة أقصر من عمر وردة»، و»في دار أبي العلاء.. عزلة وكلمات».
المجموعة الجديدة هي شهقة حنين نحو الطبيعة، ولهذا ربما يهدي ديوانه «للجذور الأولى..» و «مجدَّداً» ليؤكد هذا الحنين الذي يربط الذاكرة والخيال بتلك العزلة التي كوَّنتها الطبيعة العُمانية الساحرة في نفسه، «الحافة المائلة» كما يصفها تلك التي يختلط فيها سحر الأرض بقسوتها، والألم القاسي أو الموت المجاني، بساعات التأمُّل العميق المجانية هي الأخرى.
إنك حين تقرأ البلوشي تدرك تماماً تلك التركيبة المتناقضة في نصِّه ففي اللحظة التي تنفتح فيها على أمل لا حدود له، تدرك أنك تقترب من هاوية الموت أو الخسارة، وهكذا كما يتمرجح هو يمرجح قارئه على (حافته المائلة).
من نصوص الديوان: «آه... أيتها الأمهات الجاثمات عند النبع
هل تسمعنني؟
أريد قسطاً من حبِّكن العظيم...
أريد منكن حقاً أن تمنحنني
شيئاً من غنائكن البهيج».
«الأشجار لا تفارق مواطنها الأولى»
وعن دار مسعى»، صدرت مؤخراً المجموعة الشعرية الجديدة للشاعر العُماني سماء عيسى تحت عنوان «الأشجار لا تفارق مواطنها الأولى»، مكوَّنة من خمسة وثلاثين نصاً موزَّعاً على 64 صفحة من القطع المتوسط.
وكما أشجاره، لا يبرح الشاعر موطنه الأول، ذلك الشعر الإنساني والوجودي العميق الذي يتماهى فيه مع المخلوقات والأشياء، مع محيطه الخاص جداً في القرية العُمانية العتيقة، التي يكثِّفها لتغدو في مساحة الكون كله. فيكتب عن الوطن كما يستشعره الإنسان الأول، كما هو ألفة الموجود ومنفاه، ولا يمكن بعد للقارئ أن يخطئ في نص سماء عيسى المتكئ على لغة مبنية بصبر وخيال مصاغ بحب، وعلى تأمل الفيلسوف المعزول.
سماء عيسى، الشاعر العُماني الكبير، ما يزال يؤكد على أنه يشعل نصوصه من زاوية خفية في نار الشعر لا يعرفها سواه، فيكتب بها نصاً مختلفاً، ممهوراً باسمه هو فحسب، فتعرف النص وصاحبه بمجرد أن تمر عليه عيناك، كما في النص: «في صباح كهذا
لن يشرق الموتُ على الأرضِ
لم يعد أمام السجَّان
غير فتح زنازنه
أمام الأشجارِ
كيْ تدخلَ
وتحملَ السجناءَ
إلى الصحراء».
يبقى القول، إنه خلال سنوات قليلة، استطاعت الدار أن توجد لها مكاناً راسخاً في حركة النشر الخليجية والعربية عموماً، بما تمتاز به من فلْترة للنصوص، والنأي بنفسها عن النَّفَس التجاري الذي يكاد يخنق الحياة الإبداعية العربية، بما يضخه بعض دُور النشر من «هراء» و«ثرثرة»، ومشاريع تسخيف للوعي، ومحاولة حصاره بكل منْتن وركيك ومنتمٍ للهشاشة وضروبها.