تبدو موريتانيا نقطة مضيئة نادرة، في خضمّ موجة من الاضطرابات الإقليمية. فقد نجت هذه الدولة المحشورة بين الجزء العربي من شمال أفريقيا وبين غرب أفريقيا السوداء، من عواصف التمرّد والتشدّد التي تراكمت حولها. وهذا ليس بالأمر الهيّن بالنسبة إلى بلدٍ فقير تفسده السياسة الهشّة والتحزّب العسكري والتوتّرات العرقية-العنصرية والتشدّد المتنامي. في النتيجة، هذا الخليط من مواطن الضعف المتأصّلة أقحم مالي المجاورة في العام 2012 في أتون عاصفة من الاضطراب السياسي والتمرّد الانفصالي. ومع ذلك، لايعني نجاح موريتانيا أنها أصبحت خارج دائرة الخطر، في تحليل سياسي كتبه أنوار بوخرص لمركز كارنيغي للشرق الأوسط أمس الخميس (11 فبراير/ شباط 2016).
تداعي بلا حدود
نسبةً إلى عدد سكانها، ليس ثمّة بلد آخر في منطقة الساحل والصحراء يُنتج من المنظّرين الجهاديين والعناصر الإرهابية رفيعة المستوى بقدر ماتُنتج موريتانيا. وقد طردت الحكومة عتاة المتشدّدين خارج البلاد، وغادرها طوعاً بعض من يدّعون أنهم جهاديون. غير أن البلاد لاتزال عرضةً إلى أن يزعزع الإرهاب استقرارها، حيث تمثّل العودة المحتملة للمقاتلين تهديداً خطيراً.
تشير التجربة إلى أن الإحباط والمشاعر القويّة المناهضة للنظام هما القاسمان المشتركان الأساسيان اللذان يدفعان إلى التطرّف السياسي والديني.
التوزيع غير العادل للثروة والفرص السياسية والموارد العامة بين الجماعات العرقية والإثنية، هو أيضاً أحد الأسباب الرئيسة لعدم الاستقرار. إذ يواجه العبيد المحرّرون (ويُشار إليهم بـ"الحراطين") والموريتانيون الأفارقة الآتون من جنوب البلاد على وجه الخصوص تمييزاً هيكلياً ومؤسّسيا.
كانت الحكومة بطيئة في معالجة الفوارق والمظالم الاجتماعية التي تعتمل منذ أمد بعيد. وقد أدّى ذلك إلى بروز أشكال جديدة من التعبئة الشعبية التي تمحورت حول مواقف متطرّفة عموما.
الانتقال من العجز عن ردّ العدوان إلى قابلية النجاح
تصميم موريتانيا في مجال مكافحة الإرهاب يستحق الدعم الدولي. وتبقى المعونات العسكرية والأمنية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضرورية لمساعدة البلاد على حماية حدودها وتعزيز دفاعاتها، ضدّ المتشدّدين المسلّحين الذين يجوبون منطقة الساحل والصحراء.
يجب أن تستند عملية تقديم المساعدات إلى التقدّم الذي تحرزه الحكومة في بناء مؤسّسات رسمية أكثر انفتاحاً وخضوعاً إلى المساءلة. من دون مثل هذه الاشتراطات، فإن الجهود الخارجية الرامية إلى تمكين السلطة التنفيذية ودعم جهازها القسري - الجيش والشرطة والقضاء - ستأتي بنتائج عكسية.
يجب على الولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي الضغط على الرئيس محمد ولد عبد العزيز للعمل على الانتقال بالبلاد نحو تنمية اجتماعية أكثر إنصافاً.
يجب حثّ الرئيس على اتّخاذ المزيد من الخطوات لإدماج الموريتانيين الأفارقة والحراطين في مؤسّسات الدولة، بما في ذلك في المناصب العليا في الجيش ووزارة الداخلية ووسائل الإعلام العامة. ويجب عليه أيضاً تنفيذ القوانين التي تجرّم العبودية.
على الرغم من كل الصعاب، كانت موريتانيا نقطة مضيئة نادرة في منطقة الساحل والصحراء. غير أن البلاد تتوفّر على النوع العادي من نقاط الضعف المتأصلة الموجودة في كل بلد في المنطقة: الفقر المزمن، والصراعات الاجتماعية الحادّة، والانقلابات العسكرية المتكرّرة، والتطرّف العنيف. مع ذلك، وعلى الرغم من نقاط الضعف هذه، فقد نجت موريتانيا من حلقة الأزمات التي تهزّ شمال أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء.
تُعزى حقيقة أن موريتانيا لم تدخل في دائرة الفوضى، في جزء منها، إلى الطابع المجزّأ للاحتجاجات الاجتماعية التي تقودها الانقسامات الاجتماعية والعرقية والإثنية واللغوية والإقليمية، وفي الجزء الآخر إلى حزم الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز في مكافحة التشدّد العنيف.1 مع ذلك، فإن هزم ولد عبد العزيز للمعارضة ونجاحه في بناء استقرار هشّ في البلاد، لايعنيان أن المخاطر السياسية والأمنية ستظل تحت السيطرة. فالبلد يعاني من معوّقات بنيوية تتميز بقابلية التأثر بالمناخ، وشِراك انعدام المساواة، والجغرافيا السياسية المتقلقلة في منطقة الساحل والصحراء. كما أن المزيج الإثني والعنصري المتقلّب في موريتانيا يزيد في الشكوك التي تكمن وراء هشاشتها.
التوتّرات العنصرية تحتدم تحت السطح، والصراع العرقي عميق الأغوار، ويجري تسييس الهويات العرقية، هذا في حين تتفتّت الجماعة الإسلامية. وبات الموريتانيون يتحولون تدريجياً إلى متطرّفين حول قضايا الجنس والانتماء العرقي والدين، الأمر الذي يشكّل تحدّياً خطيراً.
عندما تصطدم هذه القضايا بالاقتصاد، فإنها تميل إلى توليد مصالح اقتصادية وسياسية متعارضة. وعليه فقد أصبحت المعركة على توزيع الفرص والموارد في موريتانيا تدريجياً جزءاً من لعبة (نحن في مقابل هم). وهذا يثير شبح انزلاق خطير إلى أتون صراع اجتماعي على أساس التصدّعات العنصرية والإثنية التي تعصف بالبلاد. الصدام سيؤلّب المغاربة من العرب-البربر، الذين يمسكون بزمام السلطة السياسية، ضد السكان السود، أي الحراطين من الطبقة الدنيا، الذين يشار إليهم أيضاً بوصفهم المغاربة السود، والموريتانيين الأفارقة المظلومين الآتية من جنوب البلاد. ويواجه كلٌّ من الحراطين والموريتانيين الأفارقة تمييزاً هيكلياً ومؤسّسياً.
تمحورت الأشكال الجديدة من التعبئة الشعبية بالفعل حول مواقف راديكالية عموماً. فقد أصبح الحراطون أكثر جرأة في دعاواهم ومطالبهم.3 وباتت الاحتجاجات والإضرابات تحدث بوتيرة متزايدة في ظروف سياسية واقتصادية متوتّرة.
يبدو هذا الاتجاه نحو التطرّف جليّاً أيضاً في المجال الديني. ذلك أن بعض جماعات الحراطين تتحدّى بقوة الأسس الإيديولوجية والسياسية للتعاليم الدينية والمدوّنات القانونية، التي يبدو أنها تقرّ العنصرية على أساس الانتماء الطبقي، مستلهمةً في ذلك أفكار المساواة الإسلامية.
هذه التطورات لاتحدث في فراغ. إذ يمثّل علماء الدين الإسلامي والمدارس الدينية الموريتانية عوامل هامة تسهم في المناقشات الإقليمية والعالمية حول جواز العنف والتمرّد في الشريعة الإسلامية، وبالتالي فإن مايحدث خارج موريتانيا يؤثّر على واقعها المحلّي، وما يحدث محليّاً له نتائجه الإقليمية هو الآخر. ويحتلّ دعاةُ التغيير الإصلاحي أو العنيف الموريتانيون، على سبيل المثال، مكانةً لاتتناسب مع حجمهم في التكوينات العقائدية الأوسع في الفكر والممارسة الإسلامية. كما يحتل الموريتانيون مكانةً بارزة في الشبكات المتطرّفة العنيفة العابرة للحدود الوطنية وحركات التمرّد الإقليمية.
هذه التوليفة الخطيرة من الجنس والمظالم الاجتماعية والاقتصادية والدين في موريتانيا، تنذر بتصعيدٍ في المعركة الأوسع حول هوية البلاد وتوجّهها الديني ومستقبل المساواة الديمقراطية هناك. والواقع أن التحدّيات الإيديولوجية والسياسية يمكن أن تتحوّل قريباً إلى أفعال في ظل ظروف لاتزال تختمر فيها مشاعر الاستياء والمظالم الأخرى بشكلٍ قوي ومؤثّر بين قادة الفكر. وبالتالي فإن فهم المصادر الداخلية للصراع في موريتانيا وتفاعلاتها مع الديناميكيات العابرة للحدود الوطنية والإقليمية، يمثّل الخطوة الأولى في التصدّي للقوى التي تهدّد الاستقرار السياسي والاجتماعي.
العلاقة بين المجتمع والدولة
كان للدين في موريتانيا، وهي دولة فقيرة ذات كثافة سكانية منخفضة تتداخل مع المغرب العربي وأفريقيا السوداء جنوب الصحراء الكبرى، تأثيرٌ عميق على السياسة والحياة الاجتماعية. يشكّل الإسلام النسيج الاجتماعي للبلاد، فيما يُعتبر الإسلاميون جزءاً أساسياً من قصة الاستقرار الهشّ في موريتانيا. ومع ذلك، فإن المشاكل التي تكمن وراء هذه الهشاشة تتجاوز السياسة الدينية، وهي تشمل أيضاً تسلسلاً هرمياً عرقياً-عنصرياً راسخاً وفوارق اجتماعية أخرى كانت تمثّل بؤراً مؤلمة منذ حصول موريتانيا على استقلالها عن فرنسا في العام 1960.
يوفّر الإسلام جسراً مشتركاً للجماعات العرقية الثلاث الرئيسة في البلاد: المغاربة العرب-البربر أو البيظان (30 في المئة من السكان)، والحراطون (40 في المئة) الذين يُشار إليهم بأنهم أحفاد العبيد، والموريتانيون الأفارقة (30 في المئة). يشترك الحراطون في اللغة والثقافة نفسها مع أسيادهم السابقين، البيظان. بيد أن ثمّة استياء وانعدام ثقة يعتملان ببطء تحت القواسم الدينية المشتركة والانتماءات الثقافية. السكان السود في موريتانيا يشعرون بالسخط إزاء الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية للمغاربة من ذوي البشرة الفاتحة، ويتضرّرون منها.
منذ الاستقلال، لعبت سياسة الهوية والاختلافات العرقية دوراً إلى حدٍّ كبير في تغذية الصراع بين الدولة والمجتمع في موريتانيا. وكان القلق العرقي لدى السكان السود والبيض لاعباً أساسياً دائماً في مناطق معينة من وادي نهر السنغال حيث يتعايش البيظان الرعاة والمزارعون السود على الرغم من الصراعات. تصاعدت التوتّرات في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، عندما أصبح المثقفون السود أكثر حزماً في إدانتهم لسياسات الدولة التمييزية الخاصة بالأراضي والممارسات الإقصائية الأخرى. أدّى فشل المحاولة الانقلابية في العام 1987، والتي قام بها عددٌ من الضباط الأفارقة السود ضد الرئيس البيظاني، إلى إطلاق العنان لموجة من القمع الرسمي للمحرّضين السود. وفي نيسان/أبريل 1989، انتهى نزاع بسيط بين رعاة موريتانيين ومزارعين سنغاليين على حقوق الرعي في وادي نهر السنغال، الذي يرسم الحدود بين البلدين، بمقتل مئات من الأشخاص وموجات مدمّرة من الأعمال الانتقامية، وعمليات مصادرة واسعة النطاق. تم طرد حوالى 100 ألف مواطن موريتاني من السنغال و85 ألف سنغالي من موريتانيا. كما تم طرد 40 ألفاً من الموريتانيين الأفارقة من البلاد بذريعة أنهم سنغاليون. وحصل بيظان ناطقون باللغة العربية وأشخاص من الحراطين على أراضي من جرى طردهم. وقد برّر النظام اغتصابه لتلك الأراضي باعتباره ردّاً ضرورياً لاحتواء التطرّف العرقي والإثني.
في الوقت نفسه، برز الإسلاميون على الساحة في ثمانينيات القرن الماضي عندما تحدّت حركات الصحوة العابرة للحدود مثل جماعة التبليغ، والجماعات المسيّسة مثل الحركة السياسية الإسلامية في موريتانيا، تفوّقَ الإسلام الصوفي الذي له جذور عميقة في البلاد. تركّزت أهداف الإسلاميين على كسب الاعتراف القانوني السياسي، وبناء حركة من أسفل إلى أعلى لأسلمة المجتمع الموريتاني، مع تجنّب العنف السياسي، وتسييس الدين والهوية العرقية بقوة. أدّى تفاعلهم مع الشبكات الثقافية والدينية السعودية إلى بروز أشكال جديدة من النشاط الاجتماعي الإسلامي. وقد ارتبطت الجماعات العابرة للحدود، مثل جماعة التبليغ والسلفيون السعوديون، بالمنظمات الدينية المحلية، على الرغم من أنها لم تشكّل شبكات دعوية منفردة.
ساهم هذا المزج بين التدفّقات الدينية العالمية وبين الخصوصيّات المحلية، في إعادة تشكيل القيم والممارسات والتقاليد الدينية في موريتانيا. وساعدت العلاقات الفكرية عبر البلدان في تشكيل مسار كبار الدعاة والساسة الإسلاميين. وقد أثّر انتشار هذه الجماعات أيضاً على الديناميكيات الاجتماعية والسياسية وديناميكيات الصراع في موريتانيا.
مع ذلك، تمكّن قادة الحركات الإسلامية من تجنّب حدوث مواجهة مع الحكام العسكريين في موريتانيا، عن طريق تجنّب القضايا الخلافية سياسياً واجتماعياً التي تناهض النظام بصورة متعمّدة. حتى بداية تسعينيات القرن الماضي، لم يكن الإسلام السياسي والأشكال الأخرى الجديدة من الدين أهم مصدر للتوتّرات السياسية والمجتمعية.
والواقع أن قادة موريتانيا سعوا إلى تسخير الإسلام لتعزيز شرعيتهم، بهدف إشهار سلطتهم وسلطة الدولة. وبعد مايقرب من عقدين من موجات الجفاف المدمّر (1968-1986) والهزيمة التي مُنِيَت بها البلاد في حرب الصحراء الغربية في سبعينيات القرن الماضي، سعت الحكومات المتعاقبة إلى زيادة شرعيتها من خلال ربط الدولة بالإسلام، ولاسيما عن طريق جعل النظام القانوني أكثر توافقاً مع الشريعة الإسلامية.11 أدّى هذا التعزيز لدور الإسلام في الساحة السياسية بقيادة الدولة، جنباً إلى جنب مع زيادة المساعدات المالية من دول الخليج العربي وانتصار الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979، إلى خلق بيئة مثالية للأفكار الدينية المسيّسة ورجال الأعمال المرتبطين بها لكسب الثقة والنفوذ.
تغيّر الوضع في تسعينيات القرن الماضي. فقد اصطدم النظامان في تونس والجزائر مع الإسلاميين بصورة وحشية، ما أدّى إلى بروز مخاوف في موريتانيا من أن تؤجّج المؤسّسات والنوادي الإسلامية المزدهرة في البلاد التحدّيات الإسلامية للنظام. تطوّرت أشكال جديدة من منظمات التوعية الدينية المتصّلة عالمياً عبر شبكة الإنترنت، ولم يعد الإسلام معتدلاً بالنسبة إلى النظام العسكري الموريتاني المصمّم على التمسّك بالسلطة. ونتيجةً لذلك، أصبح الإسلام السياسي المعيارَ المنطقي الأساسي للنظام كي يبرّر القمع الذي تمارسه الدولة، ماساعد على تفتيت المجتمع الموريتاني.
شنّت أجهزة الأمن حملة على الإسلاميين الذين اعتبرت أنهم يشكّلون تحدّياً للحكومة. أولاً، رفضت السلطات المحاولات التي قام بها بعض الإسلاميين لتشكيل حزب سياسي. ثم زادت الأجهزة الأمنية مراقبة المنظمات الإسلامية والنوادي المؤثّرة، حيث يجتمع الناشطون المحليّون بكوادر ودعاة إسلاميين أجانب. وبلغ هذا التصلّب في موقف الحكومة ذروته في العام 1994 بحظر العديد من المؤسّسات والجمعيات الإسلامية، وحبس كبار قادتها، وترحيل الدعاة الأجانب المتّهمين بجعل الإسلام الموريتاني متطرّفاً.
أدّى هجوم النظام على منظمات وقدرات الإسلاميين إلى تعطيل بنيتهم التحتية أو نشاطهم، لكنه لم يشلّها تماماً. فقد أعادت معظم المنظمات الدينية التموضع تحت أسماء مختلفة أو انتقلت إلى العمل السرّي.
عرقل حدثان رئيسان هذه الجهود: إقامة موريتانيا علاقات دبلوماسية مع إسرائيل في العام 1999، وبداية الحرب على الإرهاب بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 الإرهابية في الولايات المتحدة. انتقد معظم الإسلاميين والدعاة، بمن فيهم بعض الداعمين للنظام، التطبيع مع إسرائيل في فتوى صدرت آنذاك. هذه المعارضة دفعت الحكومة إلى إطلاق جولة جديدة من القمع. وقد استخدم معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، الرئيس في ذلك الوقت، هجمات 11 أيلول/سبتمبر كذريعة للانضمام إلى حملة مطاردة الإسلاميين في جميع أنحاء العالم.
أظهر ولد الطايع نفسه على أنه منقذ موريتانيا من تعصّب وعنف من يُعرَفون بالإسلاميين السيئين، مقارنةً مع المسلمين الطيبين والمعتدلين الذين رضخوا إلى سياسات الحكّام وقيمهم آنذاك. الإسلاميون السيئون هم الذين قاوموا الاستغلال والهيمنة التي مارستها المؤسسة البيروقراطية السلطوية.
كما هو الحال في كل المظاهر الخادعة للنظام الدستوري، لم يقتصر قمع المعارضة على الإسلاميين. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2000، حلّ النظامُ اتحادَ القوى الديمقراطية، وهو حزب سياسي، بسبب تشكيكه في طبيعة علاقات ولد الطايع مع إسرائيل. وفي العام 2002، تم حظر حزب العمل من أجل التغيير، الذي نادى بحقوق السود والمتحدّرين من العبيد.
أدّى تكثيف القمع إلى تزايد الشعور بالقلق بين شرائح واسعة من الموريتانيين، الذين كانوا يشعرون بالإحباط من سوء إدارة ولد الطايع لموارد الدولة. خلال تسعينيات القرن الماضي، دخلت العملة في موريتانيا مرحلة السقوط الحر، وفقدت نصف قيمتها. وفي العام 2005، بلغ نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي للبلاد 654 دولاراً مقابل 1283 دولاراً في العام 2012. فقد أفضت سياسات المحسوبية والمحاباة والقبلية إلى إثراء نخبة حصرية ومترابطة تتصّل بعلاقة مع قبيلة الرئيس "اسماسيد"، وقبيلة "أولاد بو السباع" التي ينتمي إليها الزعيم الحالي، ولد عبد العزيز. تُعدّ هذه القبائل، على سبيل المثال، أطرافاً فاعلة هامة في السوق. فهي تشكّل، إضافةً إلى حلفائها في القطاعات المالية والبيروقراطية والعسكرية، كتلة مهيمنة تتمتّع بسلطة قائمة على احتكار القلّة. كان الفساد والنهب والاستغلال من الصفات المميّزة لنظام ولد الطايع، جنباً إلى جنب مع تزايد انعدام الأمن الاقتصادي وانتشار الفقر وارتفاع معدلات البطالة.
في نهاية المطاف، فشل قمع المعارضة في سحق الإسلاميين أو إطالة العمر السياسي لولد الطايع. وبين دورات القمع ومحاولات الانقلاب، تطوّر الإسلام السياسي ليصبح الشريان الرئيس للمقاومة. اختار معظم الإسلاميين اللاعنف باعتباره أفضل وسيلة لإحداث التغيير السياسي والمجتمعي. ومع ذلك، كانت هناك أقلية تطرفت بسبب القمع العشوائي الذي مارسته الدولة. لم تبدأ ديناميكية التطرّف هذه بصورة جدّية إلا بعد تصعيد أعمال التعذيب والسجن والمحاكمات الجائرة للإسلاميين. أضفى القمع شيئاً من الأهمية والشرعية على الإسلاميين المتطرّفين الذين تمسّكوا بالعنف باعتباره الوسيلة الوحيدة الممكنة للمضيّ قُدُماً في المشروع السياسي الإسلامي.
تحوّل نحو الاعتدال
وضع الانقلاب العسكري الذي جرى في العام 2005 حدّاً لعهد ولد الطايع، الذي جمع بين اقتصاد منهار ونظام حكم معطّل. أفرج قادة الانقلاب العسكري عن السجناء السياسيين، بمن فيهم الإسلاميون والسلفيون الراديكاليون المفترضون، ووضعوا موريتانيا على طريق مرحلة تحوّل واعدة إلى الحكم الديمقراطي المدني، على الرغم من أنها لم تدُم طويلاً. وبدا لفترة وجيزة أن البلاد تسير على طريق الوحدة والاستقرار.
سرعان ما استفاد السياسيون الإسلاميون المعتدلون من هذا الانفتاح السياسي لتنظيم صفوفهم، تحت مسمّى الإصلاحيين الوسطيين وخوض الانتخابات البلدية والتشريعية كمرشحين مستقلين. كان أداؤهم جديراً بالملاحظة في الانتخابات المحليّة التي فازوا خلالها بالعشرات من البلديات، بما في ذلك في العاصمة.20
حدث هذا التقدّم المفاجئ للإسلاميين في انتخاب سيدي ولد الشيخ عبد الله لمنصب الرئاسة، والذي وافق بسرعة على طلب الإسلاميين إضفاء الشرعية على حزبهم السياسي، وهو التجمع الوطني للإصلاح والتنمية، المعروف باسمه المختصر في اللغة العربية: "تواصل". وتبنّى حزب "تواصل"، بزعامة جميل ولد منصور، موقفاً متعاوناً تجاه الحكومة.21 استمر هذا البحث عن تطبيع العلاقة مع أصحاب السلطة حتى بعد حصول انقلاب عسكري آخر في آب/أغسطس 2008، أطاح بالرئيس عبد الله.
سقطت الفترة الفاصلة الديمقراطية الوجيزة في العديد من المطبّات التي ضيّقت على الموريتانيين الأكثر ضعفاً. كان من بين تلك المطبّات موجة من تضخّم أسعار المواد الغذائية، تسبّب فيها نقص الإمدادات العالمية من الحبوب وارتفاع أسعار القمح والأرز، أدّت إلى قلاقل أهلية. إضافةً إلى ذلك، تم في العام 2008 إلغاء رالي باريس-داكار للسيارات، الذي يجتاز الصحراء الموريتانية، الأمر الذي أضرّ بقطاع السياحة.
بعد فترة وجيزة من التردّد في أعقاب الانقلاب، نأى الإسلاميون بأنفسهم عن المعارضين سياسياً لحكام موريتانيا العسكريين الجدد، على الرغم من أن الحكام لم يكونوا يثقون بالإسلاميين وعارضوا دمجهم السياسي. أيّد جميل ولد منصور انتخاب محمد ولد عبد العزيز، الجنرال ومهندس الانقلاب، لمنصب الرئاسة في تموز/يوليو 2009. وسعى إلى الحصول على المزيد من التسهيلات من النظام الجديد، من خلال تحالف حزب "تواصل" لفترة وجيزة مع حزب عبد العزيز الذي تأسّس حديثاً تحت اسم الاتحاد من أجل الجمهورية. وازدادت وتيرة ذوبان الجليد بين الطرفين عندما علّق ولد عبد العزيز علاقات موريتانيا الدبلوماسية مع إسرائيل.
طرح جميل ولد منصور حركته كحزبٍ سياسي ذي مرجعية إسلامية، يتبنّى موقفاً وسطاً في السياسة. وكدليل على هذا الإيمان بالاعتدال الديني والتدرّج السياسي، أخذ الحزب على عاتقه القيام بدور قيادي في كشف الأفكار الدينية المتطرّفة وتحدّي المروجين لها.
هذا التحوّل التدريجي في ديناميكيات السياسة الإسلامية في موريتانيا، دفع الإسلاميين الإصلاحيين إلى قلب الساحة السياسية الموريتانية. وقد عزّز نجاحهم النسبي في الانتخابات البرلمانية في العام 2013 صعودهم كثاني أكبر قوة سياسية في البلاد، على الرغم من أن الجزء الأكبر من المعارضة قاطع تلك الانتخابات. وعلى الرغم من أن حزب تواصل لم ينسحب من الانتخابات الرئاسية في العام 2014، وانتقد السباق الرئاسي باعتباره غير عادل، لاتزال استراتيجية الحزب هي نفسها.
صعود التطرّف العنيف
تزامن هذا الاعتدال السياسي والفكري من جانب الإسلاميين مع تزايد التطرّف العنيف. حدثت زيادة طفيفة في النشاط الإرهابي بين عامي 2005 و2011. لم يكن النشاط الإرهابي من صنع حركة جهادية موريتانية داخلية بل من صنع خليط من المتطرفين العنيفين الإقليميين والمحليين. ومع ذلك، فإن المشاركة الموريتانية في هجمات غير محترفة والمحاولات من جانب جماعات غير منسّقة من المتطرفين، لاتبعث على الطمأنينة عندما يتم ترك الأسباب السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكامنة وراء التشدّد في موريتانيا من دون معالجة. ذلك أن الظروف المحيطة، مثل الفقر والحرمان النسبي والفساد المستشري والانتهاكات التاريخية، تؤثّر على مسارات التطرّف العنيف.
بالنسبة إلى الموريتانيين المتطرّفين، تجسّد نموذج المقاومة العنيفة من خلال الجماعة الإرهابية الجزائرية (الجماعة السلفية للدعوة والقتال)، التي ظهرت في العام 1998 قبل أن تتوسّع في منطقة الساحل وتغيّر اسمها في العام 2007 إلى تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، وهي بنية تواصل عبر شبكة الإنترنت، ولها خلايا مستقلّة في العديد من بلدان منطقة الساحل والصحراء. ابتداءً من العام 2005، شاركت الجماعة السلفية للدعوة والقتال في جذب مجموعة صغيرة من الموريتانيين إلى معسكراتها في منطقة الساحل والصحراء. وقد تبلور هذا الاتحاد من خلال هجوم شنّته الجماعة السلفية في حزيران/يونيو 2005 على قاعدة المغيطي العسكرية - الواقعة على مسافة 350 كيلومتراً، أي حوالى 217 ميلاً، من الحدود الجزائرية - والذي أسفر عن مقتل خمسة عشر من أفراد الجيش وجرح سبعة عشر آخرين. وقد تكثّف إدماج التأثيرات الجهادية الإقليمية في الخبرات المحلية بعد هجوم المغيطي الإرهابي.
على الرغم من قدرتها على الفتك، كانت الشبكات الإرهابية العاملة في موريتانيا تفتقر إلى القدرات، ولاسيما من حيث الأفراد والتمويل. وقد أدّى ذلك إلى جعل حرب التمرّد الإسلامي الراديكالي ساذجة تماماً في مفهومها وتكتيكاتها وتأثيرها.
مع ذلك، فقد تضافر السخط السياسي العميق وعدم المساواة الاجتماعية في موريتانيا لخلق فئة من الشباب المحبطين والمعرّضين إلى خطر التطرّف. بيد أن الصورة العامة للموريتانيين المرتبطين بالشبكات الإرهابية الإقليمية متنوّعة بقدر تنوّع دوافعهم وتوجّهاتهم. وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن القاسمين المشتركين بينهم هما أعمار المتشدّدين وتوجّههم نحو العنف.
تتداخل نقاط الانطلاق وعمليات التطرّف إلى درجة معينة. ويظهر الموريتانيون المعتقلون أو المدانون أو من يتم قتلهم بسبب جرائم إرهابية، أن الطريق إلى التطرّف العنيف يمرّ أولاً عبر فترات من البطالة أو قضاء فترات في أداء أعمال وضيعة، تتخلّلها مستويات منخفضة من الإجرام والانحراف. ولاتظهر التطلّعات إلى التشدّد الديني إلا عندما تنتشر الدعاية الجهادية. وعندما يؤمن الموريتانيون بصدق بالوعظ المتشدّد، تبدأ الرحلة إلى معسكرات تدريب القاعدة في المغرب الإسلامي في الجزائر وفي المناطق الصحراوية من الساحل.
تشير مؤشّرات تحديد الفئات المعرّضة إلى الخطر إلى المجتمعات المحرومة اجتماعياً، التي تعيش في المناطق الحضرية والمناطق النائية.25 وقع الكثيرون في شرك أنماط الهجرة الناجمة عن الأزمات والتي أعادت تشكيل المجتمع الموريتاني خلال السنوات الثلاثين الماضية. وتضافرت موجات الجفاف المتوالية مع إهمال الدولة، لتسهم في التوسّع العمراني غير المنضبط. وقد أدّت هذه التحوّلات إلى حدوث اختلالات ثقافية واضطرابات اجتماعية واسعة. كان من بين المشاكل المصاحبة الأخرى انهيار مؤسّسات وآليات الرقابة الاجتماعية التي كانت تربط بين الأسر والمجتمعات المحلية. كما أدّى تراجع شبكات الدعم الاجتماعي إلى تفاقم الأثر الاجتماعي والعاطفي لارتفاع معدّلات الطلاق، وما ترتّب على ذلك من قصور في الرعاية الأسرية. وساهم إضعاف الروابط الاجتماعية في ارتفاع معدّلات جنوح الأحداث وارتفاع معدلات التسرّب من المدارس كذلك.
وقد ساهمت العيوب في نظام التعليم أيضاً في تفتيت المجتمع. إذ لايتوجه عددٌ ملحوظ من أفقر الأطفال في موريتانيا إلا إلى المعاهد الدينية، المعروفة باسم المدارس. وهناك عددٌ قليل فقط من المدارس التي تمارس الوعظ المتشدّد أو توفّر مجالاً لمن يتبنّون العنف، في حين يعمل معظمها باعتبارها أداة إرشاد عقائدي للشباب الذين يعانون من اهتزاز الشخصية واضطراب الهوية. في بعض الحالات، تخلق هذه المدارس بيئة مواتية للتطرّف من خلال توفير مجال مشترك للتفاعل بين الأفراد. وبعضهم مناصرون، اسمياً، للجماعات العنيفة المتطرّفة أو متعاطفون معها. خريجو هذه النظم التعليمية يمكن أن يكونوا أكثر تقبّلاً للدعوات الثورية للعمل ضد الأنظمة السياسية الظالمة على المستوى المحلّي أو الدولي.
تتضمن النتائج المترتّبة على هذه العوامل ارتفاع معدّلات بطالة وخمول الشباب، حيث يصبح هؤلاء الشباب هدفاً سهلاً للعصابات الإجرامية والدعاية المتشدّدة. يتم جذب بعض الأفراد إلى أعمال غير مشروعة أو سرديّات متطرّفة لملء خوائهم من المعنى وافتقارهم إلى التقدير وإثبات الذات على المستوى الاجتماعي. وعليه تصبح الجماعات المتطرّفة أو الإجرامية نوعاً من العائلات الوهمية للأفراد الذين يتوقون إلى الشعور بالانتماء والهدف. ذلك أن العضوية في جماعة متطرّفة، يمكن أن تعزّز احترام الذات والثقة بالنفس، مايمنح الشباب المنبوذين شعوراً بالسيطرة على حياتهم والأمل بالحصول على مكافآت مستقبلية في الحياة الآخرة.
الطريق إلى تطرّف سيدي ولد سيدنا، وهو شاب موريتاني متشدّد على صلة بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، يبدو معبّراً في هذا الصدد. فقبل أن يتم جذبه إلى فلك التطرّف العنيف، انخرط في تعاطي المخدرات والإفراط في الشراب والسرقات الصغيرة. كما تورّط في مزاعم بارتكاب اعتداءات جنسية واغتصاب. أما انبعاثه الروحي واعتناقه الفكر الإسلامي المتطرّف فقد حدث في وقت ما في أواخر سنوات مراهقته، عندما عثر بصورة عرضية على عالَم أبرز علماء الدين الجهاديين والمتشدّدين الثوريين. ومن خلال أحد معارفه، أصبح يقوم بزيارات متكرّرة إلى إحدى المدارس الإسلامية خارج العاصمة. وهناك انجذب إلى الفكر الكارثي والرؤية الفاسدة لأمير تنظيم القاعدة في العراق، أبو مصعب الزرقاوي.
في الوقت نفسه، بدأت الجماعة السلفية للدعوة والقتال تتحوّل إلى فرع لتنظيم القاعدة ذو امتداد جغرافي واسع في بلدان المغرب الإسلامي. جذب هذا التحوّل مجندين جدداً اعتبروا الجهاد العنيف من أفضل الأعمال والوسيلة الوحيدة الممكنة لتحرير أرض المسلمين من أغلال الجهل والعبودية للاستبداد الفاسد والعلماني. استفاد تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي من غضب وحماس الشباب الموريتاني لتجنيدهم وتدريبهم في شمال مالي، ومن ثم إعادتهم إلى بلدهم الأم لشنّ غارات على الأهداف العسكرية والسفارات الغربية والسياح الغربيين وعمال الإغاثة.
تُسلّط حالة ولد سيدنا الضوء على كيفية تجذّر الفكر الجهادي العالمي في التقاليد السياسية الموريتانية النقية. فقد دافع ولد سيدنا عن عنفه السياسي وأعماله الإرهابية باعتبارها تضرب بجذورها في الشرعية الإلهية والظروف المحلية، وجعل محاولات الجهاديين للتغلّب على النظام عن طريق العنف مساويةً لاستخدام الجيش الإكراه للحفاظ على قبضته على الدولة والمجتمع الموريتاني. في موريتانيا، ينتهي الأمر بالقادة الانقلابيين دائماً بالتحوّل من مارقين إلى أصحاب حظوة وصيت، ولو مؤقّتاً. بعض الجهاديين، مثل ولد سيدنا، يرون أنفسهم يتبعون المسار نفسه من أشرار ملتحين إلى مخلّصين.
الأساس المنطقي للتكافؤ الأخلاقي عند ولد سيدنا هو سمة مميّزة لعدد من الشباب الموريتانيين الذين جرى جذبهم إلى فلك التطرّف العنيف. ولذا فإن فهم هذا التفاعل القاتل بين المظالم السياسية والإقصاء الاجتماعي أمر ضروري لمعالجة الأسباب الكامنة وراء التطرّف في موريتانيا. ذلك أن عوامل بنيوية مثل الحكم الفاسد والتمييز الاجتماعي والاقتصادي والقمع الذي تمارسه الدولة، تخلق المظالم وتساهم في ظهور التطرّف. وبالقدر نفسه من الأهمية ثمّة عامل آخر يتمثّل في وجود منظمات متطرّفة تعبّر عن المظالم بعبارات دينية وتوجّهها إلى أعمال عنف. وعليه فإن النفوذ الذي تمارسه هذه الشبكات أمر ضروري في تكوين المتطرّفين الشباب.
استعادة الاستقرار الهشّ
لطالما اعتبرت موريتانيا مرشّحة طبيعية لتجنيد الإرهابيين وزعزعة الاستقرار. فقد كانت حدودها مضطربة وتضعف فيها سيطرة الحكومة، فيما كانت بنيتها الاجتماعية تتدهور بسبب التسلسل الهرمي الاجتماعي الجامد والظلم الاقتصادي والفساد السياسي. ولكن منذ أن تولّى محمد ولد عبد العزيز الرئاسة في العام 2009، تمكّنت الحكومة الموريتانية من تحييد التهديد الإرهابي للبلاد.
اعتمدت الدولة الموريتانية في عهد ولد عبد العزيز نهجاً متعدّد الجوانب لاحتواء انتشار التطرّف العنيف. فقد شجعت الإسلاميين على الانخراط في مناقشات فقهية حول العنف والتمرّد في الشريعة الإسلامية.32 كما طبقت أساليب عنيفة في مكافحة الإرهاب.
وقد ساعدت هذه السياسة الدفاعية النشطة موريتانيا على الإفلات من حلقة الأزمات التي تعصف بمنطقة الساحل والصحراء. وهذا يبدو جديراً بالملاحظة خصوصاً أن موريتانيا كانت تُعتبر قبل بضع سنوات حلقة ضعيفة في النظام الأمني لمكافحة الإرهاب في المنطقة. كانت البلاد هدفاً مفضّلاً لهجمات الجماعات الإرهابية المتمركزة في الصحراء. وابتداءً من الاعتداء الإرهابي في العام 2005 على قاعدة للجيش الذي أسفر عن مقتل خمسة عشر جندياً، مروراً بالهجمات الإرهابية المتعدّدة التي ضربت قلب نواكشوط بين عامي 2007 و2011، بدا أن موريتانيا مهيّأة لزعزعة الاستقرار على يد تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.
تولّى الإسلاميون المعتدلون ومنظّروهم، الذين كانوا حريصين على تقديم أنفسهم باعتبارهم وسطاء بين الدولة والمتطرّفين، قيادة عملية الإصلاح الفقهي. وقد أتاحت المناقشات الدينية لهؤلاء الإسلاميين إعادة تأكيد اعتدالهم الديني وفائدتهم السياسية للنظام.
بدأت المبارزة بين الإسلاميين المعتدلين والمتطرّفين في العام 2009 من قاعات السجن في نواكشوط. فقد دافع عدد من المعتقلين عن تصوراتهم المعيارية والأسس الدينية لقبول العنف بهدف إحداث التغيير السياسي والسيطرة الاجتماعية. وقد اعترضوا بنشاط على القيود الفقهية على العنف التي تقدّمت بها المؤسّسة الدينية. واحتفظ الجهاديون بنقدهم اللاذع للإسلاميين السياسيين وتبنّيهم التعدّدية السياسية.
في الصحف، عارض المثقفون الذين يناصرون التشدّد الإسلامي التيار الإصلاحي في الفكر الإسلامي الذي يأخذ رسالة الإسلام لنفسه من جديد من دون وجه حق، ويعيد تعريف معاييرها وقيمها. محمد الأمين ولد محمد سالم، الذي يلقب بالمجلسي، على سبيل المثال، اختار إمام المسجد الكبير في نواكشوط لوضع أسس إسلامية للسياسة الديمقراطية. كانت المساواة بين المبدأ القرآني الشورى والحكم الديمقراطي تُعتبر سفسطة خالصة وتدخّلاً سافراً من جانب مبادئ من صنع الإنسان في سلطان الله. وعارض لخديم ولد السمان أيضاً، وهو زعيم بارز آخر للتيار الجهادي الموريتاني مرتبط بجناح تنظيم القاعدة في شمال أفريقيا، عملية الإصلاح الديني من جانب أنصار الإسلام المدني الديمقراطي. استهدفت مساجلاته شخصيات بارزة من الإسلام السياسي المعتدل مثل محمد ولد الددو، الذي اتهمه بالخروج عن المسار الصحيح والإيمان بسذاجة بالتنافس السياسي السلمي. ينهل ولد السمان وآخرون من المؤلفات الفكرية للمراجع السلفية عبر الوطنية المتطرّفة التي يستخدمها نظراؤهم الجهاديون في العراق والسعودية وسورية واليمن.
ومع ذلك، هذه المقاومة الفكرية للسياسة الإسلامية الأصيلة والمواطنة الديمقراطية لم تكن موضع إجماع بين السلفيين المتشدّدين الـ67 الذين سجنوا، بسبب التواطؤ أو التعاطف مع المتطرّفين العنيفين والمنظمات الإرهابية. وكما قال ولد الددو، من الأهمية بمكان التمييز في الجناح المتشدّد من الإسلام السياسي بين من يقبلون بالحجّة وإعادة النظر في فكرهم الجامد بشأن العمل المسلّح، وبين من عقدوا العزم على زرع بذور الفتنة والفوضى. وفقاً للددو، الفئة الأولى يمكن إنقاذها ومن الضروري أن تشارك في الرأي. وعليه فإن مثل هذه المناقشات العاطفية ضرورية لفضح الافتراضات الدينية الخاطئة والفكر الذي يبرّر الإرهاب والقتل والتكفير. أما بالنسبة إلى غلاة الجهاديين الذين لم يتم تقويمهم، فإن الإجراءات القضائية يجب أن تأخذ مجراها.
قبلت الحكومة هذه الصيغة لتعديل سلوك الإرهابيين في السجن. وساعدت المرونة التي أبداها عدد من المعتقلين للدخول في حوار مع الحكومة في إقناع السلطات بمزايا النهج الذي اقترحه الإسلاميون المعتدلون. شهد شهر كانون الثاني/يناير 2010 الافتتاح الرسمي للحوار مع الجهاديين المحتجزين. وعلى مدى خمسة عشر يوماً، قاد الددو المعركة الفكرية للتصدّي للعقلية التي تضفي الشرعية على العنف والإرهاب.
ساعدت هذه المبادرة التي قادتها الحكومة في ثني عدد كبير ممن فقدوا البوصلة الأخلاقية، عن دعم التطرّف العنيف، حتى لو كان الكثيرون لايزالون يتمسّكون بوجهات نظر غير ليبرالية. لم تكن الليبرالية هي الهدف، حيث إن هدف أي برنامج إعادة تأهيل هو إحداث تغيير في المواقف تجاه العنف وليس التعدّدية الديمقراطية.
ومع ذلك، لم تسفر المناقشات في بعض الحالات، عن أي نتائج إيجابية. فقد تمسّك أكثر من عشرين من المعتقلين بإطارهم الفكري ومعاييرهم التي تتغاضى عن استخدام العنف وتحرّض عليه لإحداث التغيير السياسي والاجتماعي. وتبقى هناك أسئلة أيضاً عن المعدّل الحقيقي للانتكاس (العودة إلى الإجرام). ومن ضمن الأمثلة الحديثة على الانتكاس شخصيتان سلفيتان رئيستان، هما المجلسي ومحمد محمود ولد سبتي الملقب بداوود. عفا الرئيس ولد عبد العزيز عن المجلسي في العام 2010، وأفرج عن داوود في العام 2015 بعد أن أمضى سبع سنوات في السجن. وفي وقت لاحق من العام 2015 أعيد اعتقال الاثنين، للاشتباه في تورطهما بشبكة جهادية سلفية تم ضبطها.
أتبعت السلطات الموريتانية هذه الحملة اللينة لمكافحة الإرهاب باستراتيجية استباقية وثابتة لمكافحة الإرهاب. عزّز الرئيس ولد عبد العزيز الدفاعات المضادة للإرهاب في البلاد، وحدّث جيشها وأقرّ استراتيجيات لمكافحة التطرّف تهدف إلى التخفيف من تطرّف الفئات الضعيفة من السكان. وترافق إطلاق برامج طموحة لاجتثاث التطرّف، تهدف إلى إعادة تأهيل المعتقلين المدانين بارتكاب جرائم إرهابية، بتصعيد الضغط العسكري على الشبكات المتطرّفة العنيفة.36 كما عزّزت الحكومة الموريتانية وجودها في المناطق النائية عبر بناء قدرتها على السيطرة على طرق عبور الحدود وعلى الوصلات التي تربط بينها، بمساعدة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
بالإضافة إلى ذلك، شدّدت الحكومة الموريتانية قبضتها على المساجد وزادت عمليات مراقبة الدعاة والمتطرّفين المشتبه فيهم. ويتم بصورة منتظمة إلقاء القبض على الأفراد الذين يجهرون بدعم التطرّف العنيف أو يعبّرون عن نواياهم للانضمام إلى الجماعات المسلحة في سورية.
هذا الموقف الشرس الذي تبنّاه الرئيس ولد عبد العزيز كان يتناقض بصورة صارخة مع موقف نظيره المالي الذي حكم المناطق النائية من خلال تكتيكات فرّق تسد التي كافأت القبائل الخاضعة والفئات الاجتماعية التي تتوفّر على إمكانية الوصول إلى رعاية الدولة والأسواق غير المشروعة. التلاعب في الهياكل الرسمية للحكم في مالي والطرق المنحرفة التي استخدم فيها موظفو الدولة والجماعات الإثنية والنخب المحلية والجماعات المسلحة التهريب لتعزيز مصالحهم الاستراتيجية، هو الذي حدّد مسار البلاد المنحدر بعيداً عن موريتانيا.
خلافاً لبعض الدول المجاورة، كانت موريتانيا سريعةً في إدراك أن طبيعة الحكم في مالي سهّلت إغراق المنطقة الشمالية فيها بتدفّقات عابرة للحدود الوطنية من الجرائم والتطرّف العنيف. شكّل هذا التكامل بين الجريمة والسياسة والمجتمع تهديداً مباشراً للاستقرار الموريتاني، نظراً إلى البعد العابر للحدود للعلاقات الاجتماعية التي تجعل من الصعب حصر التواصل العرقي والقبلي داخل الحدود الإقليمية. تنتشر الانتماءات العرقية والقبلية على الحدود الموريتانية مع مالي، ويتحدّر العناصر البارزون في الحركة الإرهابية، جماعة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا، من قبيلة لمحار، وهي جماعة عربية مؤثرّة مقرّها في غاو ولديها أيضاً علاقات قبلية وتجارية في جنوب الجزائر وموريتانيا. الأمر نفسه ينطبق على من يطلق عليهم الموريتانيون العرب الذين يعملون في تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. هذه الشبكات العابرة للحدود من العلاقات السياسية والقبلية الكثيفة، تجعل موريتانيا لاعباً مهماً في الجهود الرامية إلى حلّ النزاع بين الحكومة وجماعات المتمرّدين في مالي في شمال البلاد.
غالباً ماتسرّع أعمال العنف التي تتمدّد من الصراعات في المناطق المجاورة، وتيرة التحوّل التدريجي للمجتمعات الحدودية إلى مراكز خبيثة للمطالبات العرقية المتطرّفة والتشدّد العابر للحدود والجريمة المنظمة. ودفعت المخاوف من صعود شمال مالي كملاذ إرهابي، موريتانيا في أوائل 2010 و2011 إلى شن غارات جوية عدّة وهجمات كوماندوس عبر الحدود ضد خلايا متشدّدة مرتبطة بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. وبعد اندلاع التمرّد الانفصالي في العام 2012، شاركت نواكشوط بصورة غير مباشرة في مفاوضات حول الأزمة بين المجموعات في شمال مالي. ويستخدم القادة الموريتانيون الروابط التاريخية بالقبائل العربية في مالي وبالجماعات المتمرّدة لاستباق الأحداث بصورة أفضل بهدف السيطرة عليها.
كل هذه الأمور كان لها بعض التأثير الإيجابي على مسار التطرّف في موريتانيا. ويبدو أنه تم احتواء التهديدات العابرة للحدود، حيث تحرز جهود مكافحة التطرّف التي تقوم بها الحكومة بعض التقدم. غير أن هناك المزيد الذي يتعيّن القيام به.
الطريق الصعب للمضي قدماً
بينما يُحتمل أن تكون جهود مكافحة الإرهاب ساعدت في مواجهة الحركات الإسلامية العنيفة، فإنها لم تعالج الأسباب الكامنة وراء المعارضة في المجتمع الموريتاني. ذلك أن نجاح موريتانيا الشامل في صدّ الهجمات الإرهابية، لايعني أنها أصبحت بمنأى عن الخطر. فإيجاد حلّ لمشاكل التطرّف يتطلّب اعتماد نهج كامل الطيف يوازن المشاركة الحركية للمتطرّفين العنيفين مع الأنشطة غير الحركية، مثل تعزيز الحوكمة والاستثمار في المناطق المهملة وضمان المساواة في الحصول على الفرص الاقتصادية للفئات السكانية الفرعية المتضرّرة وتحسين العدالة الاجتماعية.
لايزال الموريتانيون يشكّلون عدداً كبيراً من الجهاديين من ذوي الخبرة في المعارك، الذين يعملون في منطقة الساحل والصحراء. ويباهي فوج المقاتلين الموريتانيين أيضاً بأنه يضم عدداً من الأعضاء البارزين في المؤسّسة الصحراوية المتمرّدة والمتشدّدة. وليس ثمّة بلد آخر في منطقة الساحل والصحراء ينتج عدداً من المنظرين الجهاديين والعناصر الإرهابية البارزة بقدر ماتنتج موريتانيا نسبةً إلى عدد سكانها. وقد استفادت موريتانيا عسكرياً من طرد مقاتليها المتمرّسين إلى ماوراء الحدود، وكذلك من التدفّق الطوعي للجهاديين الطامحين إلى مالي وليبيا. ولذا فإن العودة المحتملة لهؤلاء المقاتلين المتمرّسين على القتال يجب أن يكون مدعاة لقلق السلطات الموريتانية. لاتزال موريتانيا أيضاً معرّضة بشدّة إلى تجدّد أعمال العنف والتشدّد في شمال مالي. فالبلاد لاتزال تستضيف عشرات الآلاف من اللاجئين الماليين في مخيم مبيرا في الشرق.
تشمل نقاط الضعف الحرجة الأخرى التقدّم البطيء الذي تحرزه الحكومة في معالجة عدم المساواة الاجتماعية عميقة الجذور والمظالم العرقية والعنصرية. إذ تظهر جميع نماذج التطرّف أن التسلسل الهرمي السياسي والاجتماعي والعرقي الخانق يلعب دوراً هاماً في دفع أكثر الموريتانيين سخطاً إلى التطرّف السياسي والتشدّد. وإلى أن تتم معالجة أوجه القصور المنهجية في البلاد في مجال الحكم الرشيد وسيادة القانون والعدالة الاجتماعية والشمول بصورة جدّية، سيكون مسار موريتانيا في الانتقال من العجز عن ردّ العدوان إلى قابلية النجاح مليئاً بالعقبات.
وما يدعو للأسف أن الرئيس ولد عبد العزيز تجنّب الإصلاحات الصعبة التي كان من شأنها أن تعالج جذور التوتّرات المجتمعية والتطرّف. إذ لاجدال في أن إنجازاته الرئاسية كانت في المجال الأمني حيث تراجع خطر الإرهاب. وقد بلغ متوسّط النمو الاقتصادي أكثر من 5 في المئة سنوياً منذ العام 2012. كما يمكن ملاحظة أنه تم إحراز تقدم في تطوير البنية التحتية والحدّ من الفقر المدقع.
مع ذلك، ثمّة الكثير مما هو منشود. إذ لاتزال موريتانيا تعاني من مستويات عالية من الفساد، والتوزيع غير المتكافئ للثروة، والتوزيع غير العادل وغير المنصف للموارد العامة. ولايزال التعليم العام في أزمة، في حين أن الحصول على مياه الشرب والكهرباء والخدمات الصحية محدود للغاية وغير متوازن. أما جهود الحكومة للاستثمار في رأس المال البشري وتوفير التحويلات النقدية المستهدفة للأسر الأكثر ضعفاً فتنفَّذ بصورة سيئة. كما أن الاستقطاب الاجتماعي والاضطرابات السياسية حول حقوق الأرض والتمثيل العنصري والعرقي في الأجهزة السياسية والبيروقراطية للدولة يزداد سوءاً.
أصبح الحراطون، الذين يشكّلون غالبية السكان (40 في المئة) والغالبية العظمى من الجنود في الجيش (70 في المئة)، أكثر حزماً في مطالبهم من أجل المساواة الاجتماعية وإدماجهم في المناصب المؤثّرة وفي السلطة.50 وقد انفجر نفاد الصبر المكبوت على المظالم المتراكمة خلال حملة الانتخابات الرئاسية في العام 2014، باعتباره قوة دافعة لترشيح بيرام ولد والداه ولد أعبيدي، الناشط المناهض للعبودية.
أصبح النشاط المتزايد للحراطين مصدر إزعاج كبير للحكومة، التي تخشى من احتمال خلق جبهة موحّدة للموريتانيين السود (الحراطين والموريتانيين من أصل أفريقي) ضد البيظان، الذين يُطلق عليهم المغاربة البيض. ويتشابك العديد من هذه الصراعات الاجتماعية والعرقية مع الدين.
يمثّل ولد أعبيدي، الذي جاء في المرتبة الثانية في الانتخابات الرئاسية في العام 2014، أحد النماذج. بدأت متاعبه مع السلطات بصورة جدّية في العام 2012 عندما أحرق نسخة من كتاب فقهي من المذهب المالكي اعتبر أنه يشجّع على العبودية. تسبّب حرق الكتاب في عاصفة في موريتانيا، حيث ندّد المتظاهرون ورجال الدين بولد أعبيدي ومنظمته، (مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية في موريتانيا)، على خلفية تأجيج الصراع الديني. وقد انتقده، وزملاءه الناشطين، أحد الأئمة في نواكشوط بصورة لاذعة في خطبة باعتبارهم "شياطين... ومجرمين سوف يحرقون أيضاً المصاحف والعلماء والبلد كله إذا لم يتم فعل شيء لوقفهم". وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2014، اعتُقل ولد أعبيدي بسبب نشر "الدعاية العنصرية" و"الانتماء إلى منظمة غير مشروعة، وقيادة مسيرة غير مصرّح بها، وممارسة العنف ضد الشرطة"، كما ذكرت صحيفة الغارديان.واتُّهم العديد من رفاقه بالإخلال بالسلم الاجتماعي بسبب توعية وتعبئة الحراطين وغيرهم من الموريتانيين السود للطعن في القوانين والممارسات التمييزية التي تنظم الحصول على الأراضي وحماية حقوق الأراضي.
كما انفجرت التوتّرات بشأن نصوص دينية يبدو أنها تتغاضى عن التمييز الاجتماعي والعرقي، عندما حكمت محكمة في نواذيبو في شمال غرب البلاد على محمد الشيخ ولد امخيطير بالإعدام لكتابته مقالاً تحدّث فيه "باستخفاف عن النبي محمد"، وفقاً لوكالة فرانس برس. ندّد مقال ولد امخيطير ببعض النصوص الدينية التي تديم "نظاماً اجتماعياً ظالماً" ضد طبقة دنيا "مهمّشة وتعاني من التمييز منذ الولادة".54وقد تسبّب المقال في اندلاع احتجاجات حاشدة أمام القصر الرئاسي، ما اضطر الرئيس ولد عبد العزيز إلى الدعوة إلى ضبط النفس والهدوء في حين وعد باتّخاذ "كل الإجراءات الضرورية للدفاع عن الإسلام ورسوله".
أصبحت التعبئة الجماعية أيضاً أكثر تنظيماً في الجزء الموريتاني من وادي نهر السنغال، حيث يناضل الموريتانيون الأفارقة من أجل العدالة والمساواة عبر العديد من المنظمات مثل حركة "لاتلمس جنسيتي". التوتّرات العرقية في الوادي، المتجذّرة في عدم الثقة والشكّ المتبادل بين الموريتانيين السود وذوي البشرة الفاتحة، شائعة بين الرعاة (المغاربة البيض) والمزارعين (الفولاني). ويمكن أيضاً ملاحظة تصلّب المطالبات العرقية المنظمة في حملة مقاومة مشاريع الرئيس الاستثمارية والمؤسّسات الغذائية والزراعية متعدّدة الجنسيات. ويعارض الحراطون والموريتانيون من أصل أفريقي مثل هذه المشاريع الإنتاجية الزراعية بصورة صاخبة، والتي يسيطر عليها عادةً المغاربة البيض.
استطاع الرئيس ولد عبد العزيز احتواء هذه التوتّرات الاجتماعية. فقد عيّن الجنرال سلطاني ولد محمد سياد، الذي ينتمي إلى طبقة الحدادين المهمّشة في موريتانيا، رئيساً لأركان الدرك ومامادو ديالو باتيا، وهو موريتاني من أصل أفريقي، وزيراً للدفاع الوطني. وهذه خطوة جيدة إلى الأمام على الرغم من أن المنصبين يخضعان لإشراف حلفاء مقرّبين من الرئيس. وتشكّل ترقية عدد قليل من الحراطين إلى رتبة جنرال إشارة أخرى من الرئيس بأنه يتفهّم ضرورة إدماج الأقليات في النظام. بالإضافة إلى ذلك، في العام 2013 أنشأ ولد عبد العزيز الوكالة الوطنية لمحاربة آثار مخلفات الاسترقاق ومكافحة الفقر والدمج، وأنشأ لجنة وزارية للإشراف على تنسيق وتنفيذ خارطة الطريق لمكافحة الآثار المتبقية للرق والتي اعتمدتها الحكومة بالتنسيق مع الأمم المتحدة. وفي آب/أغسطس 2015، أصدرت الحكومة قوانين جديدة صارمة لتحلّ محلّ القانون الصادر في العام 2007 والذي يجرّم الرق. نصّ أحد القوانين الجديدة على إنشاء محاكم خاصة لمتابعة المتّهمين بممارسة الرق وزيادة أحكام السجن بحقهم. تم منح المنظمات غير الحكومية المعترف بها أيضاً الحق في الدفاع عن ضحايا الرق.
بيد أن قدرة الرئيس ولد عبد العزيز على التنقل في حقل ألغام السياسة العرقية والإثنية، لن تستمر من دون عملية إصلاح أشمل. إذ لم تحرز حكومته سوى تقدّمٍ بطيء في معالجة مظالم الحراطين والموريتانيين من أصل أفريقي التي تعتمل منذ فترة طويلة، حيث تغذّي هذه المشاكل صعود التطرّف في المجتمعات التي ليس لديها سوى وسائل قليلة لطلب الإنصاف.
ليس من الواضح ما إذا كان الرئيس مستعداً وقادراً على المضيّ قدماّ في القيام بالمزيد من الإصلاحات في المؤسّسات الرسمية وغير الرسمية، والقواعد والإجراءات التي تدعم التمييز والمحسوبية والنزعة الميراثية الجديدة.* النظام السياسي يمنح ولد عبد العزيز صلاحيات جوهرية في الحكم وإحداث التغيير، بيد أن الرئيس في الوقت نفسه عرضة إلى العرقلة والتعجيز من جانب جماعات المصالح الخاصة التي يدين لها بالفضل. فقد بقي النمط العام للهيمنة السياسية والاقتصادية على حاله على مدى عقود على الرغم من تغيّر النظام في البلاد مرات عدة. وفي مركز النفوذ غالباً مايكون الزعماء أنفسهم ممن يشتركون في العلاقات الأسرية والروابط الزبائنية.56 عندما تكون هناك عملية إعادة ترتيب في توزيع السلطة، كما هو الحال عادة عندما يقع انقلاب، يحدث التغيير في الكتلة المهيمنة نفسها. على سبيل المثال، عندما صعد ولد عبد العزيز لرئاسة الجمهورية، تحوّل الاحتكار الذي كان يتمتع به رجال الأعمال من قبيلة اسماسيد في عهد ولد الطايع نحو حلفاء ولد عبد العزيز وأفراد قبيلته.
محاولة إصلاح هذا النظام الميراثي الجديد الراسخ والعصيّ على التغيير، يمثّل مهمة شاقة كان ولد عبد العزيز متردّداً في القيام بها. وفي المحصلة، فإن مستقبله السياسي يعتمد على شبكات النخبة والعلاقات الزبائنية.
خاتمة
الإنجازات التي حققها ولد عبد العزيز تبدو هامة بالنسبة إلى بلد تعصف به السياسة الهشّة والحزبية العسكرية والتوتّرات العرقية-العنصرية. مع ذلك، وعلى الرغم من التقدم الذي تم إحرازه نحو الاستقرار، لاتزال موريتانيا عرضة إلى خطر الاضطرابات الاجتماعية والسياسية.
يمكن للمجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي، أن يلعب دوراً هامّاً في تعزيز الاستقرار في موريتانيا، التي تُعدّ ركيزة أساسية في استراتيجية الغرب في منطقة الساحل. فهناك إمكانية لإنقاذ الدول الضعيفة والراغبة في معالجة مشاكلها الكثيرة عن طريق تعزيز قدراتها. غير أنه لايمكن إنقاذ الدول التي لاتملك العزيمة ولا الوسيلة لإنجاز المهام الأساسية للدولة، مالم يتم إقناعها أو الضغط عليها كي تحسّن سلوكها. هذا التمييز بين القدرة والرغبة ستكون له آثار على سياسات القوى الغربية التي يجب أن تفرّق بين فئات عدّة من الدول الضعيفة.57 فالهدف المنشود هو تعزيز الدول القادرة نسبياً والتي هي في محنة، وتحسين أداء الدول الراغبة في ذلك لكنها غير قادرة على حكم مجالها الإقليمي بصورة أفضل، والمساعدة في استعادة فعالية الدول غير الراغبة وغير القادرة.
تندرج موريتانيا في فئة الدول الهشّة التي تعتبر ضعيفة، لكنها راغبة في بناء قدراتها الوطنية. وعلى عكس القيادة في مالي، التي استسلمت للابتزاز الإرهابي وضغوط التأثيرات الإجرامية، واجه ولد عبد العزيز مثل هذه التحدّيات الأمنية. ولذا فإن مثل هذا التصميم من جانبه يستحق أن يحظى بدعم دولي. وتبقى المساعدات العسكرية والأمنية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضرورية لمساعدة موريتانيا في تأمين حدودها وتعزيز دفاعاتها في مواجهة المتشدّدين المسلحين الذين يجوبون منطقة الساحل والصحراء. ويتعيّن على شركاء موريتانيا الدوليين استثمار المزيد من الموارد لتدريب موظفي الحدود ومساعدة الحكومة الموريتانية في تطوير تجهيزاتها، فضلاً عن تحسين آليات التواصل وتبادل المعلومات بين وكالات إنفاذ القانون (بما في ذلك الشرطة والدرك والجمارك).
مع ذلك، لايمكن أن تقتصر المساعدات على دعم الجهاز القسري للدولة. وسيكون من الأفضل للولايات المتحدة وشركائها الدوليين عدم الوقوع في فخّ تقديم الدعم غير المشروط لولد عبد العزيز. فقد قاوم رجل موريتانيا القوي بشجاعة الاضطرابات التي تسبّبت فيها الانتفاضات الشعبية العربية في العام 2011، وتمكّن من احتواء المعارضة السياسية لحكمه، وأضعف خطر التشدّد بصورة كبيرة. بيد أن قبضته على السلطة ليست آمنة كما قد تبدو. ويعتمد دعمه الشعبي والسياسي إلى حدّ كبير على توزيع موارد المحسوبية وغيرها من المعاملات الزبائنية.
وكما شهد أسلاف ولد عبد العزيز، فإن القادة، حتى الأقوياء منهم، يظلّون في موقف حرج ومحفوف بالمخاطر، لأن الفصائل تمزّق الجيش، المؤسّسة المهيمنة في موريتانيا. في العام 2005، كان 90 في المئة من ضباط الجيش من المغاربة البيض من أصول عربية وبربرية، في حين كان 7 في المائة فقط من الحراطين و3 في المئة من الأفارقة السود. وعند قاعدة هرم السلطة، تم عكس بعض هذه الإحصاءات، حيث يشكّل الحراطون نسبة 70 في المئة من المجندين الإلزاميين، والأفارقة السود 5 في المئة، والمغاربة البيض 25 في المئة.59 وقد فاقمت الانقسامات القبلية في هيكلية قيادة الجيش هذا الوضع من انعدام التوازن العرقي والعنصري. فالضباط المتحدّرون من القبائل التي تهيمن على الهيكل السياسي والاقتصادي في البلاد هم أقلية في الطبقة العسكرية. ويزيد عدم الاستقرار الداخلي هذا من ضعف النظام في مواجهة أعمال الخيانة والانشقاق في أوقات الأزمات.
إن اعتماد ولد عبد العزيز على هذه المؤسّسة من أجل البقاء السياسي، يجعله عرضةً إلى تحدٍّ داخلي لحكمه من الفصيل الشرقي، والذي يُعتبر من الناحية العددية القوة المهيمنة في سلك الضباط.
يجب على الولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي الضغط على ولد عبد العزيز للعمل على الانتقال بالبلاد نحو تنمية اجتماعية أكثر إنصافاً. وفي سياق تدريب القوات المسلحة والأجهزة المكلفة بإنفاذ القانون في البلاد، يجب على هذه الدول أن تركّز على تحسين مهارات القتال وجمع المعلومات والتنسيق الأمني. ومع ذلك، تحتاج مثل هذه البرامج أيضاً إلى تعزيز العلاقات المدنية-العسكرية واحترام حقوق الإنسان. ذلك أن النمو الاقتصادي والتحديث العسكري من دون الشمول والمساءلة، سيصل إلى طريق مسدود في نهاية المطاف.