في الوقت الذي كان على العرب والمسلمين محاربة الفقر والبطالة ومشاكل الإدمان، ها هم يجدون أنفسهم أمام حرب ضروس بالمعنَيَيْن المجازي والحقيقي للكلمة؛ حرب ضدّ التطرّف الفكريّ والطائفيّ الدينيّ، تطرّفٌ استبدّ بفكر الشباب حتّى طغى (فقه الحرب) على سطح الوعي لدى عدد كبير منهم، وترجموا ذلك التطرف إلى عنف غير مسبوق تعاظمت خطورته مع سرعة انتشاره في الدول العربيّة، وعدم وضوح نهاية زمنية له إن عاجلاً أو آجلاً، هذا فضلا عن تزايد السخط الدولي على الإسلام والمسلمين. كلّ ذلك مقابل ضمور قيم المحبة والتعايش والتسامح وفقدان ما يمكن أن نسميه بـ (فقه السلم).
إزاء هذه الوضعيّة المزرية، لم يعد أمام عدد كبير من علماء الأمّة الإسلامية إلا أن ينتظموا في أشكال جديدة لعلّ من أبرزها (منتدى السلم في المجتمعات المسلمة) الذي نتخذه عَلَماً من أعلام التسامح والسلام في هذا المقال.
تردّدْتُ، بادئ ذي بدء، بين تخصيص المقال لرئيس المنتدى العلامة عبدالله بن بيه ودوره الخاص في نشر ثقافة السلم، أو تعميم المقال بحيث يشمل العلماء الأفاضل كافة المشاركين في المنتدى. ومن أجل إنصاف هذه الزمرة الكريمة من العلماء، والإشادة بدورهم التاريخي من خلال هذا المنتدى رأيْتُ أن يكون المقال شاملاً لهم جميعًا ممثلين في هذا الكيان العلمي الجديد: (منتدى السلم في المجتمعات المسلمة).
منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة كيان يجمع عددًا كبيرًا من علماء الدين المسلمين وتستضيفه أبوظبي، عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة بشكل سنويّ، ويناقش الإشكاليّات التي نجمت عن الصراعات الفكرية والطائفية في المجتمعات المسلمة. ويشارك في دوراته المئات من العلماء والمفكرين المسلمين من مختلف أنحاء العالم، من أجل الاجتماع على موقف موحد لمواجهة الاضطرابات وأعمال العنف في العالم الإسلامي.
وعن سبب إنشاء هذا المنتدى قال رئيسه العلامة عبدالله بن بيه:» في ظل عدم فعالية الخطابات الفكريّة والمنهجية التي يمكن أن تقي الشباب من السقوط في أحضان الفكر المتطرف الذي تسارعت خطاه ووتيرته في استقطاب فئات واسعة منه في المجتمعات الإسلامية والإنسانية، فإنّ الضرورة أصبحت ملحّة إلى قيام كيان مؤسّسيّ يسارع الخطى بحسب الممكن نحو تشخيص أسباب السقوط، ووصف الأدوية الوقائيّة من هذا الوباء أوّلاً، ثم القضاء عليه ثانيًا، باعتبار ذلك واجبَ الوقت الذي ينبغي أن يؤديه علماء المسلمين». وأضاف «لا تنفك الأحداث تتسارع بمستوى لم يعد أمام علماء المسلمين خيار إلا تنسيق جهودهم لإعلان الحرب الفكرية على التطرّف أيّا كان نوعه ومصدره».
لقد جاء تأسيس منتدى تعزيز السلم استجابة لضرورة الواقع، وقد عقد دورتين؛ الأولى في (مارس/ آذار 2014م)، والثانية في (إبريل/نيسان 2015م) باستثمار اجتماع أكثر من 450 شخصية علمية وفكرية وسياسية لتشخيص أسباب ظاهرة التطرّف ومعالجتها بما يحقق السلام والوئام الإنساني. وأخيراً وليس آخرًا عقد المنتدى في مراكش (من25 إلى 27 يناير/ كانون الثاني 2016م)، مؤتمرَ حماية الأقليات في الديار الإسلامية، بمشاركة نحو ثلاثمئة شخصية من وزراء الأوقاف ورؤساء المؤسسات الدينية والعلماء في البلدان الإسلامية، إلى جانب ممثلين عن الاتحاد الأوروبيّ والأمم المتّحدة ومختلف الأديان في العالم، توافدوا من 120 بلداً في العالم وأطلقوا «إعلان مراكش» الذي سنفرد له مقالا خاصّا به.
ويلخّص المنتدى رسالته في «نبذ العنف وإرساء أسس السلام في كل مكان». ويهدف إلى إعادة برمجة الأولويات في المجتمعات المسلمة بتأهيل العقول والنفوس لإدراك محورية السلم في الدين الإسلامي وشريعته الغراء، والسعي إلى خلق تيار سلام قوي في المجتمعات المسلمة يناهض تيار العنف والغلو والتطرف. كما يسعى إلى تجديد الخطاب الديني وإحياء «فقه السلم» وقيم التسامح والمحبة والحوار التي جاء بها الدين الإسلامي في ظل ما يشهده العالم من أحداث جسيمة وانقسامات وأفكار متطرفة وعنف وحروب أهلية.
وقد خلص المنتدى في مختلف مؤتمراته إلى ضرورة التركيز على التعليم؛ إذْ تقتضي الحاجة إلى مراجعة شجاعة ومسئولة للمناهج الدراسية، وقراءة أمينة ونقديّة لبعض المفاهيم في تراثنا الإسلامي، وبيانها للناشئة من التلاميذ وطلاب الجامعات في مقررات دراسية جادّة تُسهم في تحصين شباب العرب والمسلمين من الوقوع في براثن هذه الجماعات المسلحة. ودعا رئيسُ هذا المنتدى عبدُالله بن بيه علماءَ ومفكري المسلمين إلى «تأصيل مبدأ المواطنة الذي يستوعب مختلف الانتمـاءات، بالفهم الصحيح والتقويم السليم للموروث الفقهي والممارسات التاريخية وباستيعاب المتغيرات التي حدثت في العالم».
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4903 - الإثنين 08 فبراير 2016م الموافق 29 ربيع الثاني 1437هـ