كان الأهالي في قرية باربار قبل دخول الطب الحديث يتطببون ويتعالجون عن طريق الطب الشعبي، وكان هذا الطب شائعاً بكثرة، وكان هناك أشخاص متخصصون في هذا النوع من الطب، من النساء ومن الرجال، من القرية وخارج القرية.
وبطبيعة الحال فإن النساء يتطببن لدى النساء والرجال لدى الرجال. وكان الطب الشعبي المتداول يشتمل على جانبين: الأول الطب الشعبي الجسدي (مادي) مثل تجبير الكسور والفصاد والتدليك (المروخ) والحجامة أو وصف أدوية محددة لمختلف الأمراض مثل أبو صفار أو الإسهال أو الإمساك أو الأمراض الباطنية أو تكحيل العيون عن الرمد والتراخوما، هذا فضلاً عن الأمراض الجلدية مثل البهاق والحزاز وابوشنيتر، وخاصة أمراض القرع الذي كان منتشراً بكثرة، وأمراض البلاعيم المعروفة بالغموز، وغيرها كثير، ولا ننسى مهنة الولَّادة (القابلة) وهي مهنة طبية شعبية أيضاً.
يضاف إلى ذلك التداوي بالأدوية الشعبية وفقاً للمعارف والتقاليد المعروفة من مثل علاج بعض الأمراض بالمرقدوش، والزموتة وماء الحندبان، والزعتر، والبمبر اليابس (ثمرة المخيط) والعشرق، والبليلج، والسنوت، وحبة السودة، والحلبة، وحليب الأتان (أنثى الحمار) للأطفال المصابين بأمراض (الكوزوزو) السعال الديكي، وكذلك استخدام طين التربة الحسينية في علاج المرض المعروف شعبياً أبو كعب (التهاب الغدة النكفية).
والثاني الطب الشعبي الروحي/ النفسي ويتضمن قائمة كبيرة من العلاجات وأولها العلاج بالقرآن الكريم من قبيل تلاوة بعض الآيات أو السور القصيرة على المريض، وكذلك الطب النبوي. ومن بين هذا النوع من الطب العلاج بالرقى (مفرد رقية) والأحراز ( الحرز والحجاب) وكذلك تلاوة بعض الأدعية والأذكار على المريض إضافة إلى فتح الفال، أو الطيرة، واكتشاف الحسد. وإلى جانب ذلك هناك ممارسة بعض أشكال السحر العلاجي مثل تخليص المريض من الوساوس ومن الأمراض النفسية بطرد الشياطين وتخليص المرضى من تلبس الجن والأرواح الشريرة، وكذلك وصف بعض الأحجار الكريمة لإزالة الأمراض أو إدرار الحليب بالنسبة للمرضع، كأن تضع المرأة المرضع خرزة بيضاء في جيدها، أو أن تضع فصاً من العقيق أو الياقوت أو الفيروز مثلاً في الخاتم من أجل أن تطرد الأرواح الشريرة وتتعافى نفسياً. يضاف إلى ذلك بعض الوصفات للممسوسين (من المس) والمصابين بالصرع المعروف بالاسم الشعبي بـ (الضرورة) أو المجانين (المصابين بالاضطرابات العقلية).
هكذا كان الوضع العام فيما يتعلق بالحالة الطبية في القرية قبل دخول الطب الحديث. وبمجرد تعامل الأهالي مع خدمات الطب الحديث أخذ الطب الشعبي يتراجع شيئاً فشيئاً ويكتشف الأهالي عدم جدواه بالقياس لمفعول الطب الحديث.
وبالنسبة لخدمات الطب الحديث في القرية يمكن الانطلاق مبدئياً من سنة 1937 من القرن الماضي، وهي السنة التي التحق فيها الأهالي بالعمل في شركة نفط البحرين بابكو، أو بالجبل كما يسمونها. وفي نفس الوقت هناك رواية متداولة لدى بعض كبار السن بأن الأهالي قد عرفوا الطب الحديث قبل هذا التاريخ، وذلك من خلال قيام وجيه وتاجر من خارج القرية يملك مزرعة فرأى على بعض المزارعين من أهل القرية الذين يعملون في مزرعته أعراضاً مرضية، وبحكم معرفته بالثقافة الطبية الحديثة قام بتطعيم عدد من الأهالي لمنعهم من الإصابة بالمرض. وللحقيقة لم أستطع التحقق من هذه الواقعة. لذلك فإن اعتبار سنة 1937 البداية الفعلية هي أقرب إلى الصواب.
ففي هذه السنة تعرف الأهالي لأول مرة في تاريخ القرية على الطب الحديث من خلال الخدمات الطبية التي تقدمها الشركة للعمال وغير العمال الملتحقين بها، هذا فضلاً عن الفحوصات التي تسبق العمل في الشركة لمعرفة مدى صلاحية هذا الشخص أو عدم صلاحيته للعمل وما يعانيه من أمراض.
وبمجرد تعرف الأهالي الملتحقين بشركة النفط أصبحت هذه الخدمات حديث الناس في القرية من خلال ما ينقله العاملون في بابكو من حديث عن الطريقة الجديدة غير المعهودة في علاج أمراضهم المختلفة والأسلوب الإنساني الذي يعاملهم به الأطباء والأدوية المفيدة التي تعالج أمراضهم فوراً، وتفاصيل أخرى. وهذه ربما دفعت المزيد من الأهالي للانخراط في العمل في هذه الشركة.
ومنذ ذلك الحين إلى الآن مضت قرابة ثمانين سنة على الخدمات الطبية في القرية. ويمكن تقسيم هذه المدة إلى ثلاث مراحل. المرحلة الأولى وتمتد من 1937 إلى 1955. وفي هذه المرحلة أخذت تتوسع الخدمات الطبية من جهة كما يتوسع تعاطي الأهالي - خاصة ممن لا يعملون في بابكو - مع هذه الخدمة وذلك من خلال البحث عن العلاج في مؤسسات العلاج المتوفرة خلال هذه الفترة، وهي المستشفى الأمريكي، ومستشفى النعيم الذي افتتح في العام 1938، وكانت خدماته المجانية تشمل المنامة وبقية قرى البحرين.
المرحلة الثانية وتمتد من 1955 إلى 1975. وفيها أخذ الأهالي يتطببون بالطب الحديث ويتركون وراءهم الطب الشعبي خاصة عندما جربوا بالملموس مدى فائدة الطب الحديث في علاج كثير من الأمراض المزمنة وحتى المستعصية. ومن الأطباء المشهورين في أمراض الأطفال في هذه الفترة في مستشفى النعيم الدكتور بناجي. ومما له دلالة أيضاً على الإقبال على الطب الحديث هو افتتاح عيادة متنقلة في القرية في يوم الأحد من كل أسبوع ابتداء من مارس/ آذار سنة 1955. وكانت هذه العيادة وهي عبارة عن سيارة (فان) ويعمل بها ثلاث طبيبات للرجال والنساء من أهالي القرية، أما الطبيبات فهن: الدكتورة زيني، والدكتورة كريس، والدكتورة ماثيو. واستمرت هذه العيادة بتقطع حتى بداية الستينات. وفي هذه الفترة أيضاً بدأ الأهالي يذهبون إلى مستشفى السلمانية الذي افتتح في العام 1957 وفيه عدد من الأقسام الطبية وخاصة فيما يتعلق بالأمراض الصدرية ورعاية الطفولة والأمومة. ويذكر الأهالي وخاصة الأمهات المرحوم الدكتور إبراهيم يعقوب السعد وهو أحد أطباء الأطفال الأوائل البحرينيين، وكان حديث نساء ورجال القرية نتيجة الخدمات المتميزة التي يقدمها للأطفال، وأيضاً لأخلاقه العالية في التعامل مع نساء القرية وأطفالهن، فصار مضرب الأمثال لأهالي القرية في المهنية والأخلاق. كما تعرف الأهالي على عدد من الأطباء بعد منتصف الستينات أمثال الدكتور علي فخرو والدكتور اسنو.
وفي هذه المرحلة تعرف الأهالي على خدمات الصحة العامة مثل ردم المستنقعات المليئة بالبعوض، ورش بعض الأماكن الآسنة بالمبيدات ، وحملات التطعيم ضد الكوليرا والحصبة والجدري والأمراض المعدية، ورش البيوت بالمطهرات والمبيدات وكانت تقام خلال يوم واحد حملة صحية بهذا الشأن، وعرف هذا اليوم في القرية بيوم (الفليت) .
المرحلة الثالثة وتمتد منذ 1975 إلى 2000. وهي المرحلة التي توسعت فيه الخدمات الطبية وتم افتتاح مركز البديع منذ 1975 ليغطي معظم قرى المنطقة الشمالية، كما ازداد الوعي الصحي لدى الأهالي. ولتشمل الخدمات الطبية الجانب الوقائي والعلاجي ورعاية الطفولة، كما أن الأهالي أصبح لديهم هذا النوع من الخدمات الطبية جزءاً لا يتجزأ من حياتهم ولا يستغنون عنه أبداً. ومع سهولة المواصلات أخذ الأهالي يترددون على كل المستشفيات التي تخدم القرى إضافة إلى العيادات الثابتة كعيادة البديع مثلاً - التي ستصبح مركز البديع الصحي فيما بعد - أو العيادات المتنقلة، حيث كان تزور القرية عيادة متنقلة لمدة يومين في الأسبوع متخصصة في رعاية الطفولة والأمومة، وتقدم بعض الخدمات الرعائية/ الغذائية والصحية للأطفال مثل حليب الأطفال والصابون والمناشف وغيرها. واستمر ذلك (سحابة) عقد السبعينات وبداية الثمانينات، حتى افتتاح مركز البديع الصحي وتوسعته.
وفي هذه الفترة بدأ التخلي عن الولادة في البيوت والذهاب إلى المستشفى، ومنذ منتصف الثمانينات فإن كل المواليد ولدوا في المستشفى وليس على يد قابلة.
المرحلة الرابعة من سنة 2000 إلى الآن. وبالنظر لأهمية الخدمات الطبية في حياة الأهالي فقد بادر نادي باربار ومنذ بداية الألفية الثالثة بتنظيم محاضرات وندوات ولقاءات صحية للأهالي واستضافة متخصصين في التوعية الصحية، ثم تكللت هذه الأنشطة بفعالية صحية واسعة للقرية والقرى المجاورة وهي مهرجان باربار الصحي، حيث بدأ هذا المهرجان الصحي الأول في 2005 ثم تتالت المهرجانات إلى أن وصل إلى المهرجان الصحي السابع 2013، ويعتبر من أكبر المهرجانات الصحية على مستوى البحرين، حيث يحظى بإقبال كبير من الجمهور.
وبعد جهود حثيثة ومستمرة من قبل نادي باربار وجمعية باربار الخيرية وبعض جهود الأهالي باتجاه تقديم مزيد من الخدمات الطبية النوعية لأهالي القرية وتسهيل الحصول عليها، فقد تكللت تلك الجهود بافتتاح مركز الشيخ جابر الأحمد الصباح في القرية في أغسطس/ آب 2014 لتغطية الزيادة على طلب الخدمات الطبية في القرية وعدد من القرى المجاورة. وقد زود هذا المركز بكافة التجهيزات الطبية لخدمة الجمهور بهدف تسهيل تقديم الخدمات الطبية بكافة أنواعها. والعمل على مدار الأسبوع خلال فترتين صباحية ومسائية.
وإذا كانت الخدمات الطبية الجسدية مهمة للأهالي، فإن الخدمات الطبية النفسية لا تقل أهمية. ومع أننا لا نعرف متى على وجه الدقة بدأ الأهالي في تقبل العلاج النفسي في مستشفى الطب النفسي، لكننا من خلال ملاحظاتنا في القرية نعتقد أن بداية تعامل أهل القرية - أو بعضهم على الأقل - مع الخدمة الطبية النفسية بدأت بمنتصف الستينات، وذلك من خلال التحاق بعض المرضى المصابين باضطرابات عقلية أو نفسية بمستشفى الطب النفسي لطلب العلاج النفسي أو الدوائي أو كليهما أو للإقامة القصيرة أو الطويلة. ومنذ هذه اللحظة بدأ تردد الأهالي وإنْ باستحياء على عيادات الطب النفسي. أما الآن فإن الأمر مختلف وبات التردد على الطب النفسي من الأمور المقبولة إلى حد كبير حتى لو تمت في تكتم شديد أو عدم الإفصاح عنها. وطلب الخدمة في المجال النفسي أصبح عاماً لكل الأمراض النفسية والعقلية، وكذلك بالنسبة لكل فئات المجتمع في القرية، رجالاً ونساءً شيباً وشباباً إضافة إلى الأمراض النفسية الخاصة بالأطفال.
هذه مجرد ملاحظات عن تاريخ الخدمات الطبية والمجتمع في باربار، لا تغني عن مزيد من التقصي العميق والشامل والمفصل. لكن لابد من البداية.
حقاً إنه تاريخ حافل، يمثل رحلة التحول التاريخي الجذري والصعب لأهالي قرية باربار من الطب الشعبي بحسناته وسيئاته إلى الاستفادة من الإمكانيات الهائلة للطب الحديث، بحسناته أيضاً وسيئاته.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"العدد 4902 - الأحد 07 فبراير 2016م الموافق 28 ربيع الثاني 1437هـ
شكرا استاذنا الفاضل على هذه المعلومات القيمة، لقد شهدنا في السابق مدى احترام الناس وتقديرهم لأي شخص يعمل في التمريض والتطبيب ويثقون به بكل امانه للدور والمهنة المقدسة التي يؤديها ولازالت ذاكرتنا تختزن صور واسماء العديد من هؤلاء ...
كل التحية لكل من أخلص واجتهد لخدمة مجتمعه
موضوع شيق استاذ يوسف.. بوركت
رحم الله ابائنا وامهاتنا على ما ما تحملوا
شكرا للكاتب.. بالفعل الكثيرون يتذكرون مصاعب العلاج التي كانوا يتحملونها ذهابا وايابا للمراكز الصحيه. . وساعد الله امهاتنا وما كنّ يعانينه من الصعوبه بالوصول للعيادة من باربار الى بني جمرة.. موقع القريه البعيد عن شارع البديع تسلكه النساء مشيا حتى تصل الى الشارع العام وكم هي صعوبة التنقل بالباص.. وتصحيح للمعلومه يا استاذي..فان مركز البديع افتتح عام 1954 م وجدد عام 1975